إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مَجْلَبَةٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ مَنْ يَجْهَرُونَ بِالسُّوءِ وَمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ هَذَا السُّوءُ، وَقَدْ تُفْضِي الْعَدَاوَةُ إِلَى هَضْمِ الْحُقُوقِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ.
ثَانِيَتُهُمَا: أَنَّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ بِذِكْرِهِ عَلَى مَسَامِعِ النَّاسِ يُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ تَأْثِيرًا ضارًّا ; فَإِنَّ النَّاسَ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَمَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يَذْكُرُ آخَرَ بِالسُّوءِ لِكُرْهِهِ إِيَّاهُ أَوِ اسْتِيَائِهِ مِنْهُ يُقَلِّدُهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مِثْلُهُ، وَيَزْدَادُ ضَرَاوَةً فِيهِ إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ وُقُوعُهُ مِنْهُ، أَوْ يُقَلِّدُ فَاعِلَ السُّوءِ فِي عَمَلِهِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّقْلِيدُ، أَوْ مِنْ طَبَقَةٍ دُونَ طَبَقَتِهِ فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ يُقَلِّدُونَ خَوَاصَّهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْمُنْكَرَاتُ فِي الْخَوَاصِّ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفْشُوَ فِي الْعَوَامِّ، وَمَنْ تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَوْ فَاحِشَةٍ يَتَجَرَّأُ عَلَى ارْتِكَابِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ سَلَفًا وَقُدْوَةً فِيهِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، بَلْ يُؤَثِّرُ سَمَاعُ الْقَوْلِ السُّوءِ فِي نُفُوسِ خَوَاصِّ الْكُهُولِ الْأَخْيَارِ، وَلَيْسَ تَأْثِيرُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْعَوَامِّ وَالصِّغَارِ. فَسَمَاعُ السُّوءِ كَعَمَلِ السُّوءِ، ذَاكَ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ النَّاظِرِ، وَأَقَلُّ تَأْثِيرِهِ أَنَّهُ يُضْعِفُ فِي النَّفْسِ اسْتِبْشَاعَهُ وَاسْتِغْرَابَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَكَرَّرَ سَمَاعُ خَبَرِهِ أَوِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَ التَّرْبِيَةِ يَجْعَلُونَ جَمِيعَ كُتُبِ التَّعْلِيمِ غُفْلًا مِنَ الْقَوْلِ السُّوءِ وَالْكَلِمِ الْخَبِيثِ وَمِنَ الرَّفَثِ وَأَسْمَاءِ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَهَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الَّتِي يُرَاجِعُ فِيهَا طُلَّابُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ حِرْصًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ تَعْلَقَ بِهَا كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ مِنْ كَلِمِ السُّوءِ تَقُودُهَا إِلَى عَمَلِ السُّوءِ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ تَفْتَحُ لِمَنْ تَعْلَقُ بِنَفْسِهِ بَابًا مِنَ الْفَسَادِ لَا يَنْجُو مِنْ شَرِّهِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَيْضًا.
يَجْهَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَبْلَغَ تَأْثِيرِ الْكَلَامِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ; فَلَا يُنَزِّهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ السُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا أَسْمَاعَهُمْ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، وَمَا يَعْقِلُ كُنْهَ ذَلِكَ إِلَّا الْعَالِمُونَ الرَّاسِخُونَ، وَإِنَّ لِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةً شِعْرِيَّةً فِي الْمُبَالَغَةِ
فِي تَمْثِيلِهِ لِلْفَهْمِ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى الذِّهْنِ يَعُدُّهَا الْبَدِيعِيُّ مِنَ الْإِغْرَاقِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَهِيَ: إِنَّنِي إِذَا أَلْقَيْتُ كَلِمَةً فِي مَكَانٍ خَالٍ مِنَ النَّاسِ فِي حِنْدِسِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً فِي الْهَوَاءِ حَتَّى تُصَادِفَ نَفْسًا مُسْتَعِدَّةً فَتُؤَثِّرَ فِيهَا. أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَدِ اتَّفَقَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَمْرِيكَانِيِّينَ أَنِ اهْتَدَوْا إِلَى الْإِسْلَامِ فِي مِصْرَ وَصَارُوا يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ لِأَخْذِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَحِكَمِهِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُهُمْ يَوْمًا وَإِذَا بِلِسَانِهِ قَدْ فَلَتَتْ مِنْهُ كَلِمَةُ " الْيَأْسِ " وَكَانَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ فَتَاةٌ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ فَقَالَتْ لِلْأُسْتَاذِ: كَيْفَ يَنْطِقُ مِثْلُكَ فِي عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute