للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَخْصُوصٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعَانٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فَمَا هَذَا التَّأْوِيلُ؟ يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ أَنْ يَتَتَبَّعَ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ؛ لِيُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ. فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْمُفَسِّرُونَ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ بِالِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى. فَعَلَى الْمُدَقِّقِ

أَنْ يُفَسِّرَ الْقُرْآنَ بِحَسْبِ الْمَعَانِي الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي عَصْرِ نُزُولِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَفْهَمَ اللَّفْظَ مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَجْمَعَ مَا تَكَرَّرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ وَيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَلَفْظِ " الْهِدَايَةِ " - سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِي الْفَاتِحَةِ - وَغَيْرِهِ، وَيُحَقِّقُ كَيْفَ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُ مَعَ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَعْرِفُ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبَ مِنْ بَيْنِ مَعَانِيهِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ أَفْضَلَ قَرِينَةٍ تَقُومُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ مُوَافَقَتُهُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْقَوْلِ، وَاتِّفَاقُهُ مَعَ جُمْلَةِ الْمَعْنَى، وَائْتِلَافُهُ مَعَ الْقَصْدِ الَّذِي جَاءَ لَهُ الْكِتَابُ بِجُمْلَتِهِ.

(ثَانِيهَا) : الْأَسَالِيبُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهَا مَا يَفْهَمُ بِهِ هَذِهِ الْأَسَالِيبَ الرَّفِيعَةَ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمُمَارَسَةِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَمُزَاوَلَتِهِ، مَعَ التَّفَطُّنِ لِنُكَتِهِ وَمَحَاسِنِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِالْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. نَعَمْ إِنَّنَا لَا نَتَسَامَى إِلَى فَهْمِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ وَلَكِنْ يُمْكِنُنَا فَهْمُ مَا نَهْتَدِي بِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَعِلْمِ الْأَسَالِيبِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْفُنُونِ وَفَهْمِ مَسَائِلِهَا وَحِفْظِ أَحْكَامِهَا لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.

تَرَوْنَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُسَدَّدِينَ فِي النُّطْقِ يَتَكَلَّمُونَ بِمَا يُوَافِقُ الْقَوَاعِدَ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، أَتَحْسَبُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَبِيعِيًّا لَهُمْ؟ كَلَّا، وَإِنَّمَا هِيَ مَلَكَةٌ مُكْتَسَبَةٌ بِالسَّمَاعِ وَالْمُحَاكَاةِ، وَلِذَلِكَ صَارَ أَبْنَاءُ الْعَرَبِ أَشَدَّ عُجْمَةً مِنَ الْعَجَمِ عِنْدَمَا اخْتَلَطُوا بِهِمْ. وَلَوْ كَانَ طَبِيعِيًّا ذَاتِيًّا لَهُمْ لَمَا فَقَدُوهُ فِي مُدَّةِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ بَعْدِ الْهِجْرَةِ.

(ثَالِثُهَا) : عِلْمُ أَحْوَالِ الْبَشَرِ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذَا الْكِتَابَ وَجَعَلَهُ

آخِرَ الْكُتُبِ، وَبَيَّنَ فِيهِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي غَيْرِهِ. بَيَّنَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْخَلْقِ وَطَبَائِعِهِمْ وَالسُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْبَشَرِ، قَصَّ عَلَيْنَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ عَنِ الْأُمَمِ وَسِيَرِهَا الْمُوَافَقَةِ لِسُنَّتِهِ فِيهَا. فَلَا بُدَّ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ النَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فِي أَطْوَارِهِمْ وَأَدْوَارِهِمْ، وَمَنَاشِئِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ قُوَّةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>