للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الْجَزَاءُ وَالْخَلَاصُ فِي الْإِسْلَامِ) يَتَوَهَّمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَمِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي سَرَتْ إِلَى بَعْضِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ - أَنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ، وَالسَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ فِيهَا، إِنَّمَا تَكُونُ بِمِثْلِ مَا يُسَمُّونَهُ الْفِدَاءَ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ. وَأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْفَادِي، فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ الْمَسِيحُ، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّهُ مُحَمَّدٌ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; وَلِذَلِكَ يُشَكِّكُونَ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، بِمَا يَكْتُبُونَ مِنْ سَفْسَطَةِ الْجَدَلِ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، وَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَمَدَارُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُخْطِئْ قَطُّ، وَإِنَّ نَبِيَّنَا قَدْ أَذْنَبَ. وَالْمُذْنِبُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْقِذَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ تَبِعَةِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ.

أَمَّا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا بِتَخْطِئَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَقَطْ، وَلَا بِتَعْجِيزِهِمْ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقْتَرِفْ خَطِيئَةً بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَكَوْنِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ هُنَا لَا يُمْكِنُ إِلَّا إِذَا فُرِضَ أَنَّ عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُعَدُّ نَقْلُهُمْ تَوَاتُرًا صَحِيحًا، قَدْ لَازَمُوا الْمَسِيحَ فِي كُلِّ سَاعَاتِ حَيَاتِهِ وَدَقَائِقِهَا، فَلَمْ يَرَوْا مِنْهُ خَطِيئَةً فِيهَا، وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا قَطُّ. أَوْ فَرْضُ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الْوَحْيِ يَخُصُّهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّونَا بِمَا عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ ; لِأَنَّ هَذَا - عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا يُعَدُّ عِنْدَنَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ - مِنْ الِاحْتِجَاجِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ اعْتِقَادَنَا يَنْقُضُ اعْتِقَادَهُمْ وَاعْتِقَادَهُمْ يَنْقُضُ اعْتِقَادَنَا، فَالِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا إِذَا نَفَعَ فِي إِفْحَامِ الْخَصْمِ وَإِلْزَامِهِ، لَا يَنْفَعُ فِي إِقْنَاعِهِ، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْإِقْنَاعُ، لَا مُجَرَّدُ الْغَلَبِ فِي الْخِصَامِ.

وَلَا نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَنَّ إِثْبَاتَ الْخَطِيئَةِ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُشَاغَبَةُ بِمِثْلِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (٤٨: ٢) لِأَنَّ الْخَطِيئَةَ الَّتِي نَنْفِيهَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمَسِيحِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، هِيَ مُخَالَفَةُ دِينِ اللهِ -

تَعَالَى - بِارْتِكَابِ مَا نَهَى الله عَنْهُ، أَوْ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ. وَالذَّنْبُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ عَمَلٍ لَهُ تَبِعَةٌ لَا تَسُرُّ الْعَامِلَ وَلَا تُوَافِقُ غَرَضَهُ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَنَبِ الْحَيَوَانِ. وَمِثْلُ هَذَا يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَمِثَالُهُ مِنْ عَمَلِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْنُهُ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ وَالْقُعُودِ عَنِ السَّفَرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِذْنُهُ لَهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا وَهُمْ كَارِهُونَ وَمُصِرُّونَ عَلَى نِفَاقِهِمْ، يَضُرُّونَ وَلَا يَنْفَعُونَ، كَمَا قَالَ، تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ (٩: ٤٧) وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُعْتَذِرِينَ، وَعَلِمَ الْكَاذِبِينَ مِنْهُمْ. فَكَانَ هَذَا الْإِذْنُ ذَنْبًا ; لِأَنَّ لَهُ عَاقِبَةً مُخَالِفَةً لِلْمَقْصِدِ أَوْ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ عَدَمُ ذَلِكَ التَّبَيُّنِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْكَاذِبِينَ فِي الِاعْتِذَارِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانَ، مَا كَانُوا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا، أَذِنَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ - تَعَالَى - فِي هَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>