للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَبَّخَهُمْ عَلَى غَبَاوَتِهِمْ، وَضَعْفِ إِيمَانِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَاشَرُوهُ زَمَنًا رَأَوْا فِيهِ مَا أَيَّدَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، أَوَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ مَا كَانَ بَعْضُهُمْ

يُصَدِّقُ بَعْضًا. بَلْ يَتَّهِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْكَذِبِ وَالْهَذَيَانِ، وَأَنَّهُمْ لِضَعْفِهِمْ تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ وَقْتَ الشِّدَّةِ، وَأَنْكَرَهُ أَمْثَلُهُمْ، وَارْتَشَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ. فَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الصَّيَّادِينَ وَالنِّسَاءِ، لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْهُمْ عَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْخَيَالِ، وَطَالَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَالِ الِانْفِعَالَاتِ الْعَصَبِيَّةِ لِلنَّاسِ، كَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالْعِشْقِ، يَتَرَاءَى لِلْإِنْسَانِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ شَخْصٌ يُكَلِّمُهُ زَمَنًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا كَمَا يَحْصُلُ فِي الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ. وَبَعْضُهُمْ يَعُدُّ هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ رَاجَتْ سُوقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أُورُبَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى صَارُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَسْتَحْضِرُ الرُّوحَ، وَكَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ ; وَلِذَلِكَ احْتَرَسَ عَنْهُ بَعْضُ مُؤَلِّفِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ لَهُمْ خَافُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ رُوحًا، فَنَفَى هُوَ ذَلِكَ.

وَقَدْ كُنَّا بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مُحَاكَمَةِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ) الَّذِي أَلَّفْنَاهُ فِي زَمَنِ التَّحْصِيلِ. وَمِمَّا قُلْنَاهُ فِيهِ: إِنَّ الصُّوفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ وَالرُّؤْيَةِ الْخَيَالِيَّةِ. وَمِمَّا أَوْرَدْنَاهُ عَنْ صَاحِبِ كِتَابِ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي: وَاقِعَةٌ جَرَتْ فِي بَلَدِهِمْ (فَاسَ) قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْجَزَّارِينَ أَنَّهُ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ يُحِبُّهُ كَثِيرًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ شَخْصُهُ فِي فِكْرِهِ حَتَّى إِنَّ عَقْلَهُ وَجَوَارِحَهُ كَانَتْ كُلُّهَا مَعَهُ، فَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى أَنْ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى بَابِ الْفُتُوحِ أَحَدِ أَبْوَابِ فَاسَ حَرَسَهَا اللهُ تَعَالَى لِشِرَاءِ الْغَنَمِ عَلَى عَادَةِ الْجَزَّارِينَ، فَجَالَ فِكْرُهُ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَجُولُ فِكْرُهُ فِيهِ إِذْ رَآهُ عِيَانًا وَهُوَ قَادِمٌ إِلَيْهِ حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِهِ. قَالَ فَكَلَّمْتُهُ وَقُلْتُ لَهُ: يَا وَلَدِي خُذْ هَذِهِ الشَّاةَ - لِشَاةٍ اشْتَرَيْتُهَا - حَتَّى أَشْتَرِيَ أُخْرَى، وَقَدْ حَصَلَتْ غَيْبَةٌ قَلِيلَةٌ عَنْ حِسِّي، فَلَمَّا سَمِعَنِي مَنْ كَانَ قَرِيبًا أَتَكَلَّمُ مَعَ الْوَلَدِ، قَالُوا: مَعَ مَنْ تَتَكَلَّمُ أَنْتَ؟ فَلَمَّا كَلَّمُونِي رَجَعْتُ إِلَى حِسِّي، وَغَابَ الْوَلَدُ عَنْ بَصَرِي، فَلَا يَدْرِي مَا حَصَلَ فِي بَاطِنِي مِنَ الْوَجْدِ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. اهـ.

وَمَا كُلُّ مَا يَقَعُ لَهُ مِثْلُ هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَةٌ خَيَالِيَّةٌ كَالرُّؤْيَةِ الْمَنَامِيَّةِ، وَإِنَّنِي أَعْرِفُ امْرَأَةً كَبِيرَةَ السِّنِّ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا (الْقَلَمُونِ) كَانَتْ دَائِمًا تَرَى الْمَوْتَى، وَتُخَاطِبُهُمْ، وَتَأْنَسُ بِخِطَابِهِمْ تَارَةً، وَيَظْهَرُ عَلَيْهَا الِانْقِبَاضُ أُخْرَى. وَكَانَ أَكْثَرُ حَدِيثِهَا

مَعَ أَخٍ لَهَا مَاتَ غَرِيقًا. وَكُنْتُ أَجْزِمُ أَنَا، وَكُلُّ مَنْ عَرَفَهَا، بِأَنَّهَا غَيْرُ كَاذِبَةٍ وَلَا مُتَصَنِّعَةٍ. بَلْ كَانَتْ هَائِمَةً فِي ذَلِكَ، وَلَا تُبَالِي بِشَيْءٍ.

وَلَا يَغُرَنَّ الْعَاقِلَ انْتِشَارُ أَمْثَالِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَجَعْلِهَا مِنَ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ، فَإِنَّ هَذَا مَعْهُودٌ فِي النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَقَدْ بَيَّنَهُ الْفَيْلَسُوفُ الْعَالِمُ الِاجْتِمَاعِيُّ غوستاف لوبون

<<  <  ج: ص:  >  >>