للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَبِالشَّرَكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ; بِاتِّخَاذِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُشَرِّعُونَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَيُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ فَيَتْبَعُونَهُمْ.

هَكَذَا كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي عَهْدِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْبَعُونَ أُنَاسًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ وَمُقَدَّسِيهِمْ فِي عَقَائِدَ وَآدَابٍ وَشَرَائِعَ مَشُوبَةٍ بِالْوَثَنِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْمُنَزَّلِ، كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي أُمُورِ الدِّينِ الْخَالِصِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَسَائِرِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ كَانَ الْبَشَرُ يَسْتَقِلُّونَ بِمَعْرِفَةِ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ مِنَ اللهِ لَمَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى بَعْثَةِ الرُّسُلِ. وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُبَيِّنِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَوْ صَدَقُوا لَمَا صَارَ دِينُهُمْ فِي شَكْلٍ غَيْرِ مَا كَانَا عَلَيْهِ هُمَا، وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا فِي زَمَنِهِمَا، بِحَيْثُ لَوْ بُعِثَا ثَانِيَةً لَأَنْكَرَا كُلَّ مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَدْعِيَاءُ أَوْ أَكْثَرَهُ. وَإِذَا كَانَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِدِينِهِمَا وَهُوَ التَّوْحِيدُ قَدْ زُلْزِلَ عِنْدَ الْيَهُودِ، وَزَالَ مِنْ عِنْدِ النَّصَارَى فَكَيْفَ يَكُونُ دِينُهُمَا هُوَ دِينَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؟ ! هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَقْرَبُ النَّاسِ عَهْدًا بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ إِلَى التَّوْحِيدِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ؟ فَمَا الَّذِي فَعَلَهُ الْقُرْآنُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؟

لَوْ لَمْ يَجِئْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ بِغَيْرِ عُنْوَانِهِ فِي الشَّهَادَتَيْنِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) لَمَا كَانَ كِتَابُهُ نُورًا مُبِينًا لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ كَالْهُنُودِ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِلَهَ وَاحِدٌ، وَبَعْضُهُمْ كَانَ يُصَرِّحُ بِمِثْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عِنْدَنَا أَوْ بِهَا نَفْسِهَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ مُشْرِكِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْبَشَرِ أَوِ الْحَيَوَانِ أَوِ الْجَمَادِ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ بِصِفَةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، غَيْرِ دَاخِلَةٍ فِي سِلْسِلَةِ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَيَتَوَجَّهُونَ

إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمُعْتَقَدَةِ تَوَجُّهَ الْعِبَادَةِ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ فِي بَيَانِ الدَّيْنِ، فَيَجِبُ تَرْكُهُ إِلَى مَا يَضَعُهُ لَهُمْ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ - أَيْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ - أَوْ مَعَ ضَرْبٍ مِنَ النَّظَرِ التَّقْلِيدِيِّ فِيهِ لِدَعْمِهِ بِهِ، وَإِرْجَاعِهِ إِلَيْهِ.

فَلَمَّا كَانَتِ الْوَثَنِيَّةُ قَدْ تَغَلْغَلَتْ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ الْمَأْثُورَةِ وَأَفْسَدَتْهَا عَلَى أَهْلِهَا، فَقَلَّدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا وَرِثُوهُ مِنْهَا، أَنْزَلَ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ هَذَا النُّورَ الْمُبِينَ - الْقُرْآنَ - فَكَانَ أَشَدَّ إِبَانَةً لِدَقَائِقِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَخَفَايَاهَا مِنْ نُورِ الْكَهْرَبَاءِ الْمُتَأَلِّقِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي نَرَى فِيهِ السِّرَاجَ الْوَاحِدَ فِي قُوَّةِ مِئَاتٍ أَوْ أُلُوفٍ مِنْ نُورِ الشَّمْعِ، فَبَيَّنَ لِمَنْ يَفْهَمُ لُغَتَهُ حَقِيقَةَ التَّوْحِيدِ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ الْمَادِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَضُرُوبِ الْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّجَارِبِ، وَكَشْفِ مَا رَانَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ مِنْ شُبُهَاتِ الْمُضِلِّينَ وَأَوْهَامِ الضَّالِّينَ، الَّتِي مَزَجَتْهَا بِالشِّرْكِ مَزْجًا جَمَعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ - بَلِ النَّقِيضَيْنِ - جَمْعًا، وَلَوَّنَ أَسَالِيبَ الْكَلَامِ فِيهَا، وَنَوَّعَهُ لِتَتَقَبَّلَ النَّفْسُ تَكْرَارَهُ بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَلَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ تَرْتِيلِ آيَاتِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَلَلِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>