عِنْدَ سَمَاعِهِ الْآيَةَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ حَادِثَةٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ حُدُوثِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَتَكُونُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَنْ عَلِمَ هَذَا سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنَ الْغَلَطِ عَلَى الْغَلَطِ، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ السَّفَرَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هُوَ سَفَرُ حُجَّةِ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ حُجَّةُ الْوَدَاعِ فِي الشِّتَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ آيَةُ الصَّيْفِ، وَرِوَايَةُ نُزُولِهَا بِسَبَبِ سُؤَالِ عُمَرَ لَا تَصِحُّ.
ثُمَّ إِنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْكَلَالَةِ لَهُ مَثَارٌ مِنَ اللُّغَةِ وَمَجَالٌ مِنَ الْآيَتَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَصْلَ الْكَلَالَةِ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّسَبِ لِحًا ; أَيْ لَاصِقًا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: مَا عَدَا الْوَلَدَ فَقَطْ، وَقِيلَ: الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عِنْدَ ذِكْرِهِ: وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ، وَقِيلَ: الْكَلَالَةُ مِنَ الْعَصَبَةِ مَنْ وَرِثَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ. وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَيِّتِ الَّذِي يَرِثُهُ مَنْ ذُكِرَ. وَقِيلَ: بَلْ عَلَى الْوَرَثَةِ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ، وَقِيلَ: عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُرَجِّحُ الْقَرِينَةُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لُغَةً الَّذِي يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ النُّصُوصِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مِنَ الْمَوْرُوثِينَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ الْحَقُّ، وَفِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي أَرْسَلَهُ أَبُو دَاوُدَ وَوَصَلَهُ الْحَاكِمُ، وَلَعَلَّهُ لَوْ بَلَغَهُمْ كُلَّهُمْ لَزَالَ بِهِ كُلُّ خِلَافٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ مَجَالُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى الَّتِي ذُكِرَتْ بَيْنَ آيَاتِ الْفَرَائِضِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ لَمْ تُفَسِّرِ الْكَلَالَةَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ إِرْثَ كَلَالَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ فِيهَا الْإِخْوَةُ مِنَ الْأُمِّ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ بَيَّنَتْ فَرْضَ أَخَوَاتِ الْعَصَبِ كَلَالَةً، وَاشْتَرَطَتْ فِيهِ عَدَمَ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ كُلَّهَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى إِرْثَ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ إِرْثَ الْوَالِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَمَعَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ إِرْثَ الْأَزْوَاجِ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ وَعَدَمِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُدْلُونَ إِلَى مَنْ يَرِثُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ يَرِثُ بِالْوَاسِطَةِ، فَيُعَدُّ كَلَالَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ جَاءَ
بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ (٤: ١٢) وَمَعْنَى يُورَثُ كَلَالَةً: يَمُوتُ فَيَرِثُهُ مَنْ يَرِثُهُ مِنْ أَهْلِهِ إِرْثَ كَلَالَةٍ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ - أَيِ الْمَيِّتِ - كَلَالَةً ; أَيْ: لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ هَذَا مِنَ اللُّغَةِ لَعُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ إِرْثِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْكَلَالَةُ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِهِمَا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَلَّا يَكُونَ لَهُ زَوْجٌ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْكَلَالَةَ عَلَى النَّسَبِ دُونَ الصِّهْرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْقَرِينَةُ قَاضِيَةً بِأَنْ يُقَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute