للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ الثَّلَاثَةُ قَدْ ذُكِرَتْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ، تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوَفِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (٦: ١٤٥) وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ (١٦: ١١٥) وَخَتَمَ كُلًّا مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَمِنَ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا بَعْدَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَلَيْسَتْ نَاسِخَةً لِلْحَصْرِ فِيهِمَا بِزِيَادَةِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْلِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ بَلْ هَذَا شَرْحٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْمَيْتَةِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، فَمُحَرَّمَاتُ الطَّعَامِ أَرْبَعَةٌ بِالْإِجْمَالِ،

وَعَشْرَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَهَاكَ بَيَانُهَا وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا:

الْأَوَّلُ: الْمَيْتَةُ، يُرَادُ بِالْمَيِّتِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ; أَيْ بِدُونِ فِعْلِ فَاعِلٍ، وَالتَّأْنِيثُ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ: وَالْمُنْخَنِقَةُ إِلَخْ ; لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِلشَّاةِ كَمَا قَالُوا، وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْغَنَمِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْأَصْلِ لِلْأُنْثَى، وَالْمُرَادُ الشَّاةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْبَهِيمَةَ بَدَلَ الشَّاةِ وَلَفْظُهَا أَعَمُّ، وَهُوَ الَّذِي وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِمَا اسْتُثْنِيَ مِنْ حِلِّ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ صَارَ الْمُنَاسِبُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ هُنَا صِفَةٌ لِلْبَهِيمَةِ ; أَيْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْبَهِيمَةُ الْمَيْتَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَيْتَةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: مَا مَاتَ وَلَمْ يُذَكِّهِ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ تَذْكِيَةً جَائِزَةً، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ جَمِيعُ مَا يَأْتِي مَعَ اعْتِبَارِ قَاعِدَةِ: إِذَا قُوبِلَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ يُرَادُ بِالْعَامِّ مَا وَرَاءَ الْخَاصِّ. وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ ; أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ ضَارًّا ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ بِمَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ نِسْمَةٍ خَفِيَّةٍ مِمَّا يُسَمَّى الْآنَ بِالْمَيِكْرُوبِ انْحَلَّتْ بِهِ قُوَاهُ، أَوْ وَلَّدَ فِيهِ سُمُومًا، وَقَدْ يَعِيشُ مَيكْرُوبُ الْمَرَضِ فِي جُثَّةِ الْمَيِّتِ زَمَنًا، وَلِأَنَّهُ مِمَّا تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَسْتَقْذِرُهُ، وَتَعُدُّهُ خُبْثًا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا أَنَّ سَبَبَ ضَرَرِ الْمَيْتَةِ احْتِبَاسُ الرُّطُوبَاتِ فِيهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّذْكِيَةِ.

(الثاني: الدَّمُ) وَالْمُرَادُ بِهِ: الْمَسْفُوحُ، أَيِ الْمَائِعُ الَّذِي يُسْفَحُ وَيُرَاقُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِنْ جَمُدَ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمُتَجَمِّدِ فِي الطَّبِيعَةِ كَالطِّحَالِ وَالْكَبِدِ، وَمَا يَتَخَلَّلُ اللَّحْمَ عَادَةً فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مَسْفُوحًا، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الدَّمِ الضَّرَرُ وَالِاسْتِقْذَارُ أَيْضًا كَمَا قِيلَ فِي الْمَيْتَةِ، أَمَّا كَوْنُهُ خُبْثًا

<<  <  ج: ص:  >  >>