للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْمُنْخَنِقَةِ أَقْوَالًا عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا الَّتِي تَدْخُلُ رَأْسُهَا بَيْنَ شُعْبَتَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ، فَتَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: الَّتِي تَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، وَعَنْ قَتَادَةَ: الَّتِي تَمُوتُ فِي خِنَاقِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الضَّحَّاكِ: الشَّاةُ تُوثَقُ فَيَقْتُلُهَا خِنَاقُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ الَّتِي تَخْتَنِقُ إِمَّا فِي وِثَاقِهَا، أَوْ بِإِدْخَالِ رَأْسِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ فَتَخْتَنِقُ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمُنْخَنِقَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالِانْخِنَاقِ دُونَ خَنْقِ غَيْرِهَا لَهَا. وَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا لَقِيلَ: وَالْمَخْنُوقَةُ، حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا قَالُوا. اهـ. وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الْمُنْطَبِقُ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ.

وَيَغْلَطُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الِانْخِنَاقِ هُنَا مِمَّا يُسَمُّونَهُ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ، كَمَا قَالَ الصَّرْفِيُّونَ فِي مِثْلِ: كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَيَتَوَهَّمُ مَنْ لَا ذَوْقَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا لِمَا كَانَ أَثَرًا لِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ ; كَكَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ فَلْسَفَةٌ بَاطِلَةٌ، وَأَنَّ الْعَرَبِيَّ الْقِحَّ إِنَّمَا يَقُولُ: انْكَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ انْكَسَرَ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَجْهَلُ مَنْ كَسَرَهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ تَعْبِيرٍ عَنْ شَيْءٍ تَعَاصَى كَسْرُهُ عَلَى الْكَاسِرِينَ ثُمَّ انْكَسَرَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمْ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ، وَأَرَى ذَوْقِي يُوَافِقُ فِي مَادَّةِ الْخَنْقِ مَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ مُطَاوِعَ خَنَقَ هُوَ اخْتَنَقَ مِنَ الِافْتِعَالِ، وَأَنِ انْخَنَقَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ بِفِعْلِ الْحَيَوَانِ بِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَهْمَ الَّذِي جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ: الْجَمْعُ بِهِ بَيْنَ هَذِهِ الزَّوَائِدِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيْنَ حَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى مِنْهَا، فَالْمُنْخَنِقَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِتَذْكِيَةِ الْإِنْسَانِ لَهُ لِأَجْلِ أَكْلِهِ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَأْكُلُونَهَا، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ فِيهَا بَعْضُ النَّاسِ ; لِأَنَّ لِمَوْتِهَا سَبَبًا مَعْرُوفًا، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِي الشَّرْعِ بِالتَّذْكِيَةِ الَّتِي تَكُونُ بِقَصْدِ الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَكُونَ وَاثِقًا مِنْ صِحَّةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي يُرِيدُ التَّغَذِّيَ بِهَا، وَلَوْ أَرَادَ - تَعَالَى - بِالْمُنْخَنِقَةِ: الْمَخْنُوقَةَ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ لَعَبَّرَ بِلَفْظِ الْمَخْنُوقَةِ أَوِ الْخَنِيقِ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيدُ أَنَّ الْخَنْقَ وَإِنْ كَانَ ضَرْبًا مِنَ التَّذْكِيَةِ بِفِعْلِ الْفَاعِلِ لَا يَحِلُّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ الْمُنْخَنِقِ بِالْأَوْلَى، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمَيْتَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْعُدُولُ إِلَى صِيغَةِ الْمُنْخَنِقَةِ لَا تُعْقَلُ لَهُ حِكْمَةٌ إِلَّا الْإِشْعَارَ بِكَوْنِ الْمُنْخَنِقَةِ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ.

(السَّادِسُ: الْمَوْقُوذَةُ) وَهِيَ الَّتِي ضُرِبَتْ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ حَتَّى انْحَلَّتْ قُوَاهَا وَمَاتَتْ. قَالَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>