للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْضًا، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَعَنْ سَائِرِ الْآلِ وَالصَّحْبِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ، الَّذِينَ حَفِظُوا لَنَا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ، هَذَا الدِّينَ، فَالْعُمْدَةُ فِي مَعْرِفَتِهِ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي لَمَّ تُعْرَفْ إِلَّا بِجَرْيِهِمْ عَلَيْهَا، وَلَا سَعَةَ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ، أَمَّا مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ سُنَّةً مُتَّبَعَةً لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ، فَهِيَ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ حَيْثُ صِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَتَحْقِيقِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَسَلَامَتِهَا مِنَ الْمُعَارَضَةِ، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ مِنْهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَقِيدَةً، وَلَا أَمْرًا كُلِّيًّا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ; إِذْ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ مُنَافِيًا لِمِنَّةِ اللهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِأَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمُ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِكْمَالُ وَالْإِتْمَامُ مُتَوَقِّفًا عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إِلَّا الْآحَادُ مِنَ النَّاسِ، بَلْ يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ فِي الْفُرُوعِ وَالْمَسَائِلِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي يَنْفَعُ الْعِلْمُ بِهَا وَلَا يَضُرُّ أَحَدًا فِي دِينِهِ أَنْ يَجْهَلَهَا ; وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْإِمَامَةِ فِي فَهْمِ الدِّينِ الْإِحَاطَةَ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ.

ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ الِاضْطِرَارُ هُوَ دَفْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا يَضُرُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْ إِلْجَاؤُهُ إِلَيْهِ ; فَهُوَ صِيغَةُ افْتِعَالٍ مِنَ الضَّرَرِ، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الضِّيقُ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ، فَالِاضْطِرَارُ تَكَلُّفُ مَا يَضُرُّ بِمُلْجِئٍ يُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا

حَاصِلًا أَوْ مُتَوَقَّعًا يُلْجِئُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: " ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ " الثَّابِتَةِ عَقْلًا وَطَبْعًا وَشَرْعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ نَفْسِهِ ; كَإِكْرَاهِ بَعْضِ الْأَقْوِيَاءِ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا يَضُرُّهُمْ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ (٢: ١٢٦) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالضَّرَرُ الْمُلْجِئُ فِيهِ هُوَ: الْمَخْمَصَةُ، أَيِ الْمَجَاعَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمْصِ الْبَطْنِ، أَيْ ضُمُورِهِ لِفَقْدِ الطَّعَامِ، فَالْجُوعُ ضَرَرٌ يَدْفَعُ الْإِنْسَانَ إِلَى تَكَلُّفِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ يَعَافُهَا طَبْعًا وَيَتَضَرَّرُ بِهَا لَوْ تَكَلَّفَ أَكْلَهَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا عِلَّةٌ أَمْ لَا، وَقَدْ وَافَقَ الشَّرْعُ الْفِطْرَةَ فَأَبَاحَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ أَيُّ جُوعٍ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ، وَلَا الْجُوعُ الشَّدِيدُ مُطْلَقًا، بَلِ الْجُوعُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَعَهُ الْجَائِعُ شَيْئًا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ إِلَّا الْمُحَرَّمَ مِمَّا ذُكِرَ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ: فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ مِمَّا ذُكِرَ حَالَ كَوْنِهِ فِي مَجَاعَةٍ مُحِيطَةٍ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، لَا يَجِدُ مَنْفَذًا مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ، وَحَالَ كَوْنِهِ: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ أَيْ: غَيْرَ جَائِرٍ فِيهِ أَوْ مُتَمَايِلٍ إِلَيْهِ مُتَعَمِّدٍ لَهُ، فَالْجَنَفُ: الْمَيْلُ وَالْجَوْرُ، وَيَصْدُقُ بِالْمَيْلِ إِلَى الْأَكْلِ ابْتِدَاءً، وَبِالْجَوْرِ فِيهِ بِأَكْلِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>