للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِلَى الشَّيْءِ إِمَّا بِالذَّاتِ وَإِمَّا بِالتَّدْبِيرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ إِرَادَتَهُ تَوَجَّهَتْ إِلَى مَادَّةِ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَّانٌ) (٤١: ١١) . . . إِلَخْ، (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) فَأَتَمَّ خَلْقَهُنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ الدُّخَانِيَّةِ فَجَعَلَهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ تَامَّاتٍ مُنْتَظِمَاتِ الْخَلْقِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ يُوَافِقُ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْيَهُودِ عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا، ثُمَّ

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالنُّورَ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ التَّسْوِيَةِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي طَوْرِ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ يَكُونُ مَخْلُوقًا وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ بَشَرًا سَوِيًّا فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كَمَا يَكُونُ عِنْدَ إِنْشَائِهِ خَلْقًا آخَرَ، وَسَنُبَيِّنُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى - عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَوْ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) (٢١: ٣٠) أَنَّ الْعَالَمَ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا ثُمَّ فَصَّلَهُ اللهُ - تَعَالَى - بِالْخَلْقِ تَفْصِيلًا وَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، فَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا سَابِقًا عَلَى تَسْوِيَةِ السَّمَاءِ سَبْعًا، نَعَمْ إِنَّ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْخِلْقَةِ الَّتِي لَا نَعْرِفُهَا، وَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُنَاقِضُ أَوْ تُخَالِفُ قَوْلَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَأَنْوَارِهَا: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (٧٩: ٣٠) وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدِهِمَا) أَنَّ الْبَعْدِيَّةَ لَيْسَتْ بَعْدِيَّةَ الزَّمَانِ وَلَكِنَّهَا الْبَعْدِيَّةُ فِي الذِّكْرِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا بَعْدَ فِي أَنْ تَقُولَ فَعَلْتُ كَذَا لِفُلَانٍ وَأَحْسَنْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَاعَدْتُهُ فِي عَمَلِ كَذَا، كَمَا تَقُولُ: وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ، تُرِيدُ نَوْعًا آخَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، مِنْ غَيْرِ مُلَاحِظَةِ التَّأَخُّرِ فِي الزَّمَانِ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ الَّذِي كَانَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ هُوَ دَحْوُ الْأَرْضِ أَيْ جَعْلُهَا مُمَهَّدَةً مَدْحُوَّةً قَابِلَةً لِلسُّكْنَى وَالِاسْتِعْمَارِ لَا مُجَرَّدَ خَلْقِهَا وَتَقْدِيرِ أَقْوَاتِهَا فِيهَا، وَخَلْقُ اللهِ وَتَقْدِيرُهُ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا مَا دَامَتْ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي غَيْرِهَا.

(وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الْآنَ) أَنَّ الدَّحْوَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: دَحْرَجَةُ الْأَشْيَاءِ الْقَابِلَةِ لِلدَّحْرَجَةِ كَالْجَوْزِ وَالْكَرَى وَالْحَصَا وَرَمْيِهَا، وَيُسَمُّونَ الْمَطَرَ الدَّاحِيَ؛ لِأَنَّهُ يَدْحُو الْحَصَا، وَكَذَا اللَّاعِبُ بِالْجَوْزِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ ((كُنْتُ أُلَاعِبُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا بِالْمَدَاحِي)) وَهِيَ أَحْجَارٌ أَمْثَالُ الْقُرْصَةِ كَانُوا يَحْفِرُونَ وَيَدْحُونَ فِيهَا بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ، فَإِنْ وَقْعَ الْحَجَرُ فِيهَا غَلَبَ صَاحِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ غُلِبَ، ذَكَرَهُ فِي اللِّسَانِ، وَقَالَ بَعْدَهُ الدَّحْوُ: هُوَ رَمْيُ اللَّاعِبِ بِالْحَجَرِ وَالْجَوْزِ وَغَيْرِهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ وَأَعَادَ الْقَوْلَ فِيهِ مِنْ لُعْبَةِ الدَّحْوِ بِالْحِجَارَةِ الْمُسْتَدِيرَةِ كَالْقُرْصَةِ لَا يَزَالُ مَأْلُوفًا عِنْدَ الصِّبْيَانِ فِي بِلَادِنَا وَيُسَمُّونَهُ لَعِبَ الْأُكْرَةِ، وَيُحَرِّفُهَا بَعْضُهُمْ فَيَقُولُ: الدُّكْرَةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ قَالَ - تَعَالَى -: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (٧٩: ٣٠) أَيْ أَزَالَهَا عَنْ مَقَرِّهَا

كَقَوْلِهِ: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) (٧٣: ١٤) وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ دَحَا الْمَطَرُ الْحَصَا. . . إِلَخْ، وَلَكِنَّ فَرْقًا بَيْنَ دَحْوِ الْأَرْضِ وَدَحْرَجَتِهَا مِنْ مَكَانِهَا عِنْدَ التَّكْوِينِ، وَرَجْفِهَا قُبَيْلَ خَرَابِهَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ دَحَاهَا عِنْدَمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>