للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْكِتَابِ فَأَوْدَتْ بِهِمْ وَحَرَمَتْهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَمَرَ اللهُ النَّاسَ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ.

كَانَتْ أُورُوبَّا الْمَسِيحِيَّةُ فِي غَمْرَةٍ مِنَ الْجَهْلِ وَظُلُمَاتٍ مِنَ الْفِتَنِ، تَسِيلُ الدِّمَاءُ فِيهَا أَنْهَارًا لِأَجْلِ الدِّينِ وَبِاسْمِ الدِّينِ وَلِلْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ، ثُمَّ فَاضَ طُوفَانُ تَعَصُّبِهَا عَلَى الْمَشْرِقِ، وَرَجَعَتْ بَعْدَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ تَحْمِلُ قَبَسًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَعُلُومِ أَهْلِهِ، فَظَهَرَ فِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّ لَنَا الْحَقَّ فِي أَنْ نَتَفَكَّرَ وَأَنْ نَعْلَمَ وَأَنْ نَسْتَدِلَّ، فَحَارَبَهُمُ الدِّينُ وَرِجَالُهُ حَرْبًا عِوَانًا انْتَهَتْ بِظَفَرِ الْعِلْمِ وَرِجَالِهِ بِالدِّينِ وَرِجَالِهِ، وَبَعْدَ غَسْلِ الدِّمَاءِ الْمَسْفُوكَةِ قَامَ - مُنْذُ مِائَتَيْ سَنَةٍ إِلَى الْيَوْمِ - رِجَالٌ مِنْهُمْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَدَنِيَّةَ الْقَائِمَةَ عَلَى دَعَائِمِ الْعِلْمِ: الْمَدَنِيَّةَ الْمَسِيحِيَّةَ، وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ مَحْقِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَمَحْوِهَا - بَعْدَ انْهِزَامِهَا - مِنْ أَمَامِ الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَّفِقُ مَعَ الْعِلْمِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَالُ الْمُسْلِمِينَ، نَعَمْ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَمْسَوْا وَرَاءَ الْأُمَمِ كُلِّهَا فِي الْعِلْمِ حَتَّى سَقَطُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ أَشَدُّ جَهْلًا مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، فَجَهِلُوا الْأَرْضَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، وَضَعُفُوا عَنِ اسْتِخْرَاجِ مَنَافِعِهَا، فَجَاءَ الْأَجْنَبِيُّ يَتَخَطَّفُهَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَكِتَابُهُمْ قَائِمٌ عَلَى صِرَاطِهِ يَصِيحُ بِهِمْ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (٢: ٢٩) (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ

وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (٤٥: ١٣) (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (٧: ٣٢) الْآيَاتِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَكِنَّهُمْ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (٢: ١٧١) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وَلَوْ عَقَلُوا لَعَادُوا، وَلَوْ عَادُوا لَاسْتَفَادُوا وَبَلَغُوا مَا أَرَادُوا، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُذَكِّرُهُمْ بِكَلَامِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلَا نَيْأَسُ مِنْ رُوحِ اللهِ (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رُوحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (١٢: ٨٧) .

ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢: ٢٩) أَيْ فَهُوَ الْمُحِيطُ بِكَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ وَحِكْمَتِهِ وَبِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ بَيَانُهُ، وَإِذَا كَانَ الْعَاقِلُ يُدْرِكُ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الْمُحْكَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ لِهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ؟ فَهَذَا الْآخِرُ يَتَّصِلُ بِأَوَّلِ الْآيَةِ فِي تَقْرِيرِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِبْطَالِ شُبَهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ رَسُولًا، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ رَسُولٌ؛ لِأَنَّ قُصَارَى ذَلِكَ كُلِّهِ اعْتِرَاضُ الْجَاهِلِينَ عَلَى مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>