للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْسِيرَ قِسْمَانِ:

(أَحَدُهَمَا) : جَافٌّ مُبْعِدٌ عَنِ اللهِ وَعَنْ كِتَابِهِ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ حَلُّ الْأَلْفَاظِ وَإِعْرَابُ الْجُمَلِ وَبَيَانُ مَا تَرْمِي إِلَيْهِ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ وَالْإِشَارَاتُ مِنَ النُّكَتِ الْفَنِّيَّةِ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَفْسِيرًا، وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِينِ فِي الْفُنُونِ كَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَغَيْرِهِمَا.

(ثَانِيهُمَا) : وَهُوَ التَّفْسِيرُ الَّذِي قُلْنَا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ - عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ - هُوَ الَّذِي يَسْتَجْمِعُ تِلْكَ الشُّرُوطَ لِأَجْلِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ لِغَايَتِهَا، وَهُوَ ذَهَابُ الْمُفَسِّرِ إِلَى فَهْمِ الْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ، وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْذِبُ الْأَرْوَاحَ، وَيَسُوقُهَا إِلَى الْعَمَلِ وَالْهِدَايَةِ الْمُودَعَةِ فِي الْكَلَامِ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: (هُدًى وَرَحْمَةً) وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْأَوْصَافِ. فَالْمَقْصِدُ الْحَقِيقِيُّ وَرَاءَ كُلِّ تِلْكَ الشُّرُوطِ وَالْفُنُونِ هُوَ الِاهْتِدَاءُ بِالْقُرْآنِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهَذَا هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي أَرْمِي إِلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ.

وَتَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَيْضًا عَنِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ عَظِيمَ شَأْنِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِهِ بِمَا مِثَالُهُ: مَثَلُ النَّاطِقِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْآنَ - مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى نِهَايَةِ بِلَادِ مُرَّاكُشَ - بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ فِي لُغَتِهِمْ كَمَثَلِ قَوْمٍ مِنَ الْأَعَاجِمِ الْمُخَالِطِينَ لِلْعَرَبِ، وَجَدَ فِي كَلَامِهِمْ - بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ - مُفْرَدَاتٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ. فَهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَى التَّفْسِيرِ، وَفَهْمِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ كَانُوا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ حَيْثُ بُدِئَ بِكِتَابَةِ التَّفْسِيرِ وَأَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ بِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَنَا يَكُونُ أَحْوَجَ مِنَّا إِلَى ذَلِكَ إِذَا بَقِينَا عَلَى تَقَهْقُرِنَا، وَلَكِنْ إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا نَهْضَةً لِإِحْيَاءِ لُغَتِنَا وَدِينِنَا فَرُبَّمَا يَكُونُ مَنْ بَعْدَنَا أَحْسَنَ حَالًا مِنَّا.

التَّفْسِيرُ عِنْدَ قَوْمِنَا الْيَوْمَ وَمِنْ قَبْلِ الْيَوْمِ بِقُرُونٍ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا فِي كَلَامِهِمْ مِنَ اخْتِلَافٍ يَتَنَزَّهُ عَنْهُ الْقُرْآنُ (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (٤: ٨٢) وَلَيْتَ أَهْلَ الْعِنَايَةِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ التَّفْسِيرِ يَطْلُبُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَعْنًى تَسْتَقِرُّ

عَلَيْهِ أَفْهَامُهُمْ فِي الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْكِتَابِ، ثُمَّ يَبُثُّونَهُ فِي النَّاسِ وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا طَلَبُوا صِنَاعَةً يُفَاخِرُونَ بِالتَّفَنُّنِ فِيهَا، وَيُمَارُونَ فِيهَا مَنْ يُبَارِيهِمْ فِي طَلَبِهَا، وَلَا يَخْرُجُونَ لِإِظْهَارِ الْبَرَاعَةِ فِي تَحْصِيلِهَا عَنْ حَدِّ الْإِكْثَارِ مِنَ الْقَوْلِ، وَاخْتِرَاعِ الْوُجُوهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَالْإِغْرَابِ فِي الْإِبْعَادِ عَنْ مَقَاصِدِ التَّنْزِيلِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَسْأَلُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَمَا فَهِمُوهُ وَإِنَّمَا يَسْأَلُنَا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِإِرْشَادِنَا وَهِدَايَتِنَا، وَعَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا مَا نُزِّلَ إِلَيْنَا (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١٦: ٤٤)

<<  <  ج: ص:  >  >>