للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالزَّكَاةِ، وَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ، وَتَعْزِيرِهِمْ، وَالْإِقْرَاضِ الْحَسَنِ - تَأْثِيرَ سَيِّئَاتِكُمُ الْمَاضِيَةِ مِنْ نُفُوسِكُمْ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا خُبْثٌ يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَذَلِكَ بِحَسَبَ مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى مِنْ إِذْهَابِ الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ، كَمَا يَغْسِلُ الْمَاءُ الْقَاذُورَاتِ (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ طَاهِرَ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْفِطْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِرَارًا، وَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْوَعْدَ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ عَلَيْهِ أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ حَالِ مَنْ كَانَ عَلَى ضِدِّهِ، فَقَالَ: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلَ) أَيْ ضَلَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَالسَّبِيلَ السَّوِيَّ، الَّذِي يُوَصِّلُ سَالِكَهُ إِلَى إِصْلَاحِ قَلْبِهِ وَتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ، وَيَجْعَلُهُ أَهْلًا لِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْجَنَّاتِ، وَانْحَرَفَ عَنْ وَسَطِهِ فَخَرَجَ عَنْهُ بِسُلُوكِ إِحْدَى سُبُلِ الْبَاطِلِ الْمُفْسِدَةِ لِلْفِطْرَةِ، وَالْمُدَسِّيَةِ لِلنَّفْسِ الَّتِي يَنْتَهِي سَالِكُهَا إِلَى دَارِ الْجَحِيمِ وَالْخِزْيِ الْمُقِيمِ.

(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أَيْ فَبِسَبَبِ نَقْضِهِمْ مِيثَاقَنَا الَّذِي أَخَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ، وَوَاثَقْنَاهُمْ بِهِ، وَمِنْهُ الْإِيمَانُ بِمَنْ نُرْسِلُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ

الرُّسُلِ وَنَصْرُهُمْ، وَتَعْزِيرُهُمْ، اسْتَحَقُّوا لَعْنَتَنَا وَالْبُعْدَ مِنْ رَحْمَتِنَا ; لِأَنَّ نَقْضَ الْمِيثَاقِ قَدْ دَنَّسَ نُفُوسَهُمْ، وَأَفْسَدَ فِطْرَتَهُمْ، وَقَسَّى قُلُوبَهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَافْتَرَوْا عَلَى مَرْيَمَ وَبَهَتُوهَا، وَأَهَانُوا وَلَدَهَا الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ، وَافْتَخَرُوا بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الشُّبْهَةِ، فَمَعْنَى لَعْنِهِمْ وَجَعْلِ قُلُوبِهِمْ قَاسِيَةً أَنَّ نَقْصَ الْمِيثَاقِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ كَانَ بِحَسَبَ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي النُّفُوسِ، مُبْعِدًا لَهُمْ عَنْ كُلِّ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ رَحْمَةَ اللهِ وَفَضْلَهُ، وَمُقَسِّيًا لِقُلُوبِهِمْ حَتَّى لَمْ تَعُدْ تُؤَثِّرُ فِيهَا حُجَّةٌ وَلَا مَوْعِظَةٌ، فَهَذَا مَعْنَى إِسْنَادِ اللَّعْنَةِ وَتَقْسِيَةِ الْقُلُوبِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا يَزْعُمُهُ الْجَبْرِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ شَيْءٌ خَلَقَهُ اللهُ ابْتِدَاءً، وَعَاقَبَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسَبَّبًا عَنْ أَعْمَالِهِمْ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ، وَلَا كَمَا يَفْهَمُهُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ الْإِلَهِيِّ ; إِذْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْجَزَاءِ الْوَضْعِيِّ الْمُرَتَّبِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوَانِينِ الطِّبِّ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ وَلِحِكْمَةِ التَّكْلِيفِ، وَجَامِعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، وَلَوْ خَلَقَ اللهُ الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِهِمُ ابْتِدَاءً فَلَمْ تَكُنْ أَثَرًا لِأَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ السَّيِّئَةِ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَذُمَّهُمْ بِهَا، وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَيْهَا. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " قَسِيَّةً " بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى وَزْنِ " فَعِيلَةً "، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ " قَاسِيَةً " وَهِيَ قِرَاءَةُ الْبَاقِينَ، وَلِأَجَلِ مُوَافَقَةِ الْقِرَاءَتَيْنِ كُتِبَتِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقِيلَ: إِنَّ " قَسِيَّةً " بِمَعْنَى " رَدِيئَةً فَاسِدَةً "، مِنْ قَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ قَسِيٌّ، عَلَى وَزْنِ " شَقِيٌّ ": أَيْ " فَاسِدٌ مَغْشُوشٌ "، وَقَدْ رَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى الْقَسْوَةِ بِمَعْنَى الصَّلَابَةِ ; لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، فَإِذَا غُشَّا بِإِدْخَالِ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فِيهِمَا كَالنُّحَاسِ أَفَادَهُمَا ذَلِكَ قَسْوَةً وَصَلَابَةً.

<<  <  ج: ص:  >  >>