ثُمَّ مَا عَتَمَ هَذَا الْإِنْجِيلُ أَنْ تُرْجِمَ إِلَى الْيُونَانِيَّةِ، ثُمَّ تَغَلَّبَ
اسْتِعْمَالُ التَّرْجَمَةِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَعِبَتْ بِهِ أَيْدِي النُّسَّاخِ الْأَبُونِيِّينَ وَمَسَخَتْهُ بِحَيْثُ أَضْحَى ذَلِكَ الْأَصْلُ هَامِلًا، بَلْ فَقِيدًا، وَذَلِكَ مُنْذُ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ، انْتَهَى.
أَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي، مَنْ هُوَ الَّذِي تَرْجَمَ إِنْجِيلَ مَتَّى بِالْيُونَانِيَّةِ؟ وَمَنْ عَارَضَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْبَثَ بِهِ النُّسَّاخُ، وَيَمْسَخُوهُ؟ اللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: " يَتَرَجَّحُ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي نَفْسِ أُورْشَلِيمَ "، وَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ رِوَايَةٌ جَدَلِيَّةٌ عَنِ الْمَسِيحِ، لَا تَرْجَمَةُ حَيَاتِهِ ".
(وَقَالَ) : إِنَّ الْبُرُوتِسْتَانْتَ الْمُتَأَخِّرِينَ امْتَرَوْا وَشَكُّوا فِي كَوْنِ الْفَصْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْهُ لِمَتَّى.
وَقَالَ الدُّكْتُورُ (بوستُ) فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ: وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ بِخُصُوصِ لُغَةِ هَذَا الْإِنْجِيلِ ; هَلْ هِيَ الْعِبْرَانِيَّةُ، أَوِ السُّرْيَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ لُغَةَ فِلَسْطِينَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ؟ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ كُتِبَ بِالْيُونَانِيَّةِ كَمَا هُوَ الْآنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي شُبْهَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْإِنْجِيلِ، تَكَلَّمَ فِيهَا صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ; وَهِيَ أَنَّ شَوَاهِدَهُ فِي الْعِظَاتِ مِنَ التَّرْجَمَةِ السَّبْعِينِيَّةِ لِلْعَهْدِ الْعَتِيقِ، وَفِي بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ مِنَ التَّرْجَمَاتِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَجَابَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ بِمَا تَرَاءَى لَهُ، ثُمَّ رَجَّحَ (بوستُ) أَنَّهُ أُلِّفَ بِالْيُونَانِيَّةِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ رُؤَسَاءِ الْكَنِيسَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ. فَثَبَتَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِتَارِيخِهِ وَلَا لُغَتِهِ، " وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ".
ثُمَّ قَالَ: " وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِنْجِيلُ قَدْ كُتِبَ قَبْلَ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَيَظُنُّ الْبَعْضُ أَنَّ إِنْجِيلَنَا الْحَالِيَّ كُتِبَ بَيْنَ سَنَةِ ٦٠، وَسَنَةِ ٦٥ "، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ صَاحِبَ الذَّخِيرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ كُتِبَ سَنَةَ ٤١، وَإِنْ هِيَ إِلَّا ظُنُونٌ وَأَوْهَامٌ، يُنَاطِحُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ النَّصَارَى الْأَقْدَمُونَ فَالْمَأْثُورُ عَنْهُمْ أَنَّ مَتَّى لَمْ يَكْتُبْ هَذَا الْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا كَتَبَ بَعْضَ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَالنَّصَارَى يَحْتَجُّونَ الْآنَ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، الَّتِي لَا سَنَدَ لَهَا لَفْظِيًّا وَلَا كِتَابِيًّا، كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي الْعُصُورِ الْأَوْلَى بِأَقْوَالٍ لِأُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنَارِ بَيَانُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَأَقْدَمُ شَهَادَةٍ يَتَنَاقَلُونَهَا فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ (بَابِيَاسَ) أُسْقُفِ هِيرَا بُولِيسَ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِي ; فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ (أُوسَابْيُوسُ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٣٤٠ مَا تَرْجَمَتُهُ: " إِنَّ
مَتَى كَتَبَ مَجْمُوعَةً مِنَ الْجُمَلِ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَدْ تَرْجَمَهَا كُلٌّ بِحَسَبَ طَاقَتِهِ ".
وَيَمْتَازُ إِنْجِيلُ مَتَّى بِأَنَّ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ تَلَامِيذِ الْمَسِيحِ، وَبِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْوَثَنِيَّةِ مِنْ سَائِرِ الْأَنَاجِيلِ.
(إِنْجِيلُ مُرْقُسَ) ذَكَرَ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ أَنَّ مُرْقُسَ كَانَ عِبْرَانِيًّا مِلَّةً (أَيْ: نَسَبًا)