هَذَا حَاصِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَبِأَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوا هَدْيَهُمْ وَضَلُّوا طَرِيقَهُمْ، وَقَدْ عَبَّرَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ عَنْ ذَلِكَ هُنَا بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَخْصَرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وَحَاصِلُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ: أَنَّكُمْ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ مَخْلُوقَاتِ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لِغَيْرِكُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْبَشَرِ، امْتِيَازٌ ذَاتِيٌّ خَاصٌّ، وَلَا نِسْبَةٌ ذَاتِيَّةٌ إِلَيْهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَقَدْ مَضَّتْ سُنَّتُهُ فِي الْبَشَرِ بِأَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَيَعْفُوَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَغْفِرَهَا فَلَا يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِحَسَبَ مَشِيئَتِهِ الْمُطَابِقَةِ لِعِلْمِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ. فَإِذَا كَانَ لَكُمُ امْتِيَازٌ ذَاتِيٌّ، عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ، فَلِمَ يُعَذِّبْكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، كَمَا يُعَذِّبُ غَيْرَكُمْ بِذُنُوبِهِمْ؟ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا عِلْمَ الْيَقِينِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَمِنْ تَارِيخِكُمْ. وَالْمُضَارِعُ " يُعَذِّبُكُمْ " هُنَا لِبَيَانِ الشَّأْنِ الْمُسْتَمِرِّ فِي مُعَامَلَتِهِمْ ; فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّعْذِيبَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، مَتَى وَقَعَ سَبَبُهُ وَوُجِدَتْ عِلَّتُهُ، وَالْكَلَامُ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَتَارِيخُهُمْ فِيهِ كَتَارِيخِ غَيْرِهِمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَفِي زَمَنِهَا وَبَعْدَهَا: مَا عُذِّبَتْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ بِشَيْءٍ إِلَّا وَعُذِّبُوا بِمِثْلِهِ، فَلَوْ كَانُوا أَبْنَاءَ اللهِ وَأَحِبَّاءَهُ، وَلَوْ مَجَازًا، بِحَسَبَ مَا بَيَّنَّاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنْ كُتُبِهِمْ، لَمَا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِغَيْرِهِمْ، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذُنُوبٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا كَمَا قَالَ يُوحَنَّا (١ يو ٣: ٩) .
إِذَا فَقِهْتَ هَذَا ظَهَرَ لَكَ أَنَّ إِشْكَالَ الرَّازِيِّ غَيْرُ وَارِدٍ أَصْلًا ; فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ وَإِبْطَالِ دَعْوَى أَنْ يَكُونَ شَعْبٌ مِنْهَا مُمْتَازًا عِنْدَ اللهِ بِذَاتِهِ، لَا تَجْرِي عَلَيْهِ سُنَّتُهُ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّ أُمَّتَهُ لَهَا مِثْلُ هَذَا الِامْتِيَازِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ اللهِ وَلَا مِنْ أَحِبَّائِهِ، مَهْمَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ ; فَيُقَالُ: لِمَ غُلِبُوا
إِذًا فِي غَزْوَةِ " أُحُدٍ "؟ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ بِأُحُدٍ الْمُنَافِقُينَ، وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ؟ يُثْبِتُ لَكَ هَذَا مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنَ الْآيَاتِ ; فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا أَصَابَهُمْ بِذُنُوبِ بَعْضِهِمْ ; إِذْ خَالَفَ الرُّمَاةُ أَمْرَ نَبِيِّهِمْ وَقَائِدِهِمْ، وَتَنَازَعُوا وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَّعِظُونَ بِالْحَوَادِثِ، فَلَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا عُوقِبُوا بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (٣: ١٣٧ - ١٤١) ثُمَّ قَالَ: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) (٣: ١٥٢) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ١٥٥، ثُمَّ قَالَ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (٣: ١٦٥) . . . إِلَخْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute