للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ عَهْدٍ عَلَى الْوَحْيِ - جَمِيعَ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، وَمَا يَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ دُنْيَاكُمْ مِنَ الْعَقَائِدِ الْحَقِّ الَّتِي أَفْسَدَتْهَا عَلَيْكُمْ نَزَغَاتُ الْوَثَنِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقُ وَالْآدَابُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا عَلَيْكُمُ الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ فِي الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالْعِبَادَاتُ وَالْأَحْكَامُ، الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أُمُورُكُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ؛ فَتَرَكَ التَّصْرِيحَ بِمَفْعُولِ (يُبَيِّنُ لَكُمْ) لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا بَيَّنَهُ لَكُمْ مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ; لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَمَا عَرَفَ هَذَا وَلَا ذَاكَ، مِمَّا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ أَحْبَارِكُمْ

وَرُهْبَانِكُمْ وَحُكَمَائِكُمْ وَسَاسَتِكُمْ، جَاءَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ يُبَيِّنُ لَكُمْ كُلَّ هَذَا ; لِيَقْطَعَ مَعْذِرَتَكُمْ، وَيَمْنَعَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) يُبَشِّرُنَا بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرُنَا وَيُخَوِّفُنَا سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُفْسِدِينَ الضَّالِّينَ الْمَغْرُورِينَ.

(فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) يَبِينُ لَكُمْ أَنَّ أَمْرَ النَّجَاةِ وَالْخَلَاصِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي دَارِ الْقَرَارِ لَيْسَ مَنُوطًا بِأَمَانِيِّكُمُ التى تَتَمَنَّوْنَهَا، وَأَوْهَامِكُمُ التى تَغْتَرُّونَ بِهَا، بَلْ هُوَ مَنُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحَابِي أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (٤: ١٢٣ ١٢٤) (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يُرِيَكُمْ صِدْقَ نَبِيِّهِ بِنَصْرِ دَعْوَتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا ; لِتَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ - إِنْ عَقَلْتُمْ - مَا يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى.

رَوَى أَبْنَاءُ إِسْحَاقَ وَجَرِيرٍ وَالْمُنْذِرِ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَرَغَّبَهُمْ فِيهِ وَحَذَّرَهُمْ ; فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللهَ، فَوَاللهِ لَتَعْلَمُونِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا: إِنَّا مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، وَلَا أَرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ ; أَيْ أَنْزَلَهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ، مُتَضَمِّنَةً لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنْ " الْفَتْرَةَ " مِنْ فَتَرَ الشَّيْءُ: إِذَا سَكَنَ أَوْ زَالَتْ حِدَّتُهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: " الْفُتُورُ " سُكُونٌ بَعْدَ حِدَّةٍ، وَلِينٌ بَعْدَ شِدَّةٍ، وَضَعْفٌ بَعْدَ قُوَّةٍ، وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ وَظُهُورِ الرُّسُلِ عِدَّةَ قُرُونٍ، وَقَوْلُهُ (أَنْ تَقُولُوا) تَقَدَّمَ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ: (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٤: ١٧٦) فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَتَقَدَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>