جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ بِأَنْ تُعَلَّمَ أَحْكَامُهُ لِلنَّاسِ وَتُنَفَّذَ فِيهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ مِنْهُمْ يَصْطَفِيهِمْ لِيَكُونُوا خُلَفَاءَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ أَظْهَرَ أَحْكَامَ اللهِ وَسُنَنَهُ
الْوَضْعِيَّةَ (أَيِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ) كَذَلِكَ أَظْهَرَ حِكَمَهُ وَسُنَنَهُ الْخَلْقِيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخِلَافَةِ عَامًّا فِي كُلِّ مَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ الْإِنْسَانَ عَلَى سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، نَطَقَ الْوَحْيُ وَدَلَّ الْعِيَانُ وَالِاخْتِيَارُ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْعَالَمَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَخَصَّ كُلَّ نَوْعٍ غَيْرَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِشَيْءٍ مَحْدُودٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ. فَأَمَّا مَا لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ كَالْمَلَائِكَةِ فَقَدْ وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَظَائِفَهُ مَحْدُودَةٌ. قَالَ - تَعَالَى -: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (٢١: ٢٠) (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (٣٧: ١٦٥، ١٦٦) (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) (٣٧: ١، ٢) (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحَا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) (٧٩: ١ - ٥) عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ طَوَائِفُ لِكُلِّ طَائِفَةٍ وَظِيفَةٌ مَحْدُودَةٌ، وَوَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ: أَنَّ مِنْهُمُ السَّاجِدَ دَائِمًا، وَالرَّاكِعَ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا مَا نَعْرِفُهُ بِالنَّظَرِ وَالِاخْتِبَارِ فَهُوَ حَالُ الْمَعْدِنِ وَالْجَمَادِ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا عَمَلَ. وَحَالُ النَّبَاتِ وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ حَيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَإِرَادَةً فَهُمَا لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي جَعْلِ عَمَلِ النَّبَاتِ مُبَيِّنًا لِحُكْمِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ، وَلَا وَسِيلَةَ لِبَيَانِ أَحْكَامِهِ وَتَنْفِيذِهَا، فَكُلُّ حَيٍّ مِنَ الْأَحْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ وَالْغَيْبِيَّةِ فَإِنَّ لَهُ اسْتِعْدَادًا مَحْدُودًا، وَعِلْمًا إِلْهَامِيًّا مَحْدُودًا، وَعَمَلًا مَحْدُودًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً عَنِ الَّذِي لَا حَدَّ لِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَا حَصْرَ لِأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ، وَلَا نِهَايَةَ لِأَعْمَالِهِ وَتَصَرُّفِهِ.
وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَقَدْ خَلَقَهُ اللهُ ضَعِيفًا. كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (٤: ٢٨) وَخَلَقَهُ جَاهِلًا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (١٦: ٧٨) وَلَكِنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ، وَمَوْضِعٌ لِعَجَبِ الْمُتَعَجِّبِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ يَتَصَرَّفُ فِي الْأَقْوِيَاءِ، وَمَعَ جَهْلِهِ فِي نَشْأَتِهِ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، يُولَدُ الْحَيَوَانُ عَالِمًا بِالْإِلْهَامِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، وَتَكْمُلُ لَهُ قُوَاهُ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَيُولَدُ الْإِنْسَانُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِلْهَامِ إِلَّا الصُّرَاخُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ يَحِسُّ وَيَشْعُرُ بِالتَّدْرِيجِ الْبَطِيءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُعْطَى قُوَّةً أُخْرَى تَتَصَرَّفُ بِشُعُورِهِ وَإِحْسَاسِهِ تَصَرُّفًا يَكُونُ لَهُ بِهِ السُّلْطَانُ عَلَى هَذِهِ الْكَائِنَاتِ، فَيُسَخِّرُهَا وَيُذَلِّلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا تَشَاءُ تِلْكَ الْقُوَّةُ الْغَرِيبَةُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا
الْعَقْلَ، وَلَا يَعْقِلُونَ سِرَّهَا، وَلَا يُدْرِكُونَ حَقِيقَتَهَا وَكُنْهَهَا، فَهِيَ الَّتِي تُغْنِي الْإِنْسَانَ عَنْ كُلِّ مَا وُهِبَ لِلْحَيَوَانِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مِنَ الْكِسَاءِ الَّذِي يَقِيهِ الْبَرْدَ وَالْحَرَّ، وَالْأَعْضَاءِ الَّتِي يَتَنَاوَلُ بِهَا غِذَاءَهُ وَالَّتِي يُدَافِعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْطُو عَلَى عَدُوِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاهِبِ الَّتِي يُعْطَاهَا الْحَيَوَانُ بِلَا كَسْبٍ، حَتَّى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute