ذِكْرَى سَيِّئَةٌ قَدْ تَعْقُبُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا التَّفْسِيرَ لِلنَّفْيِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: يُنْفَى إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، فَيُسْجَنُ فِيهِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: إِنِ النَّفْيَ هُوَ السَّجْنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَغْرَبُ الْأَقْوَالِ، فَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ غَيْرُ عُقُوبَةِ النَّفْيِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الْأَرْضِ، تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ بَيَانِ حُدُودِ اللهِ، لَا التَّعْزِيرُ الْمُفَوَّضُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الْعُقُوبَتَيْنِ فِي بَيَانِ اللهِ لِنَبِيِّهِ مَا كَانَ يَكِيدُ لَهُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) (٨: ٣٠) رَوَى أَصْحَابُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ سَأَلَهُ: هَلْ تَدْرِي مَا ائْتَمَرُوا بِكَ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجُنُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي ".
هَذِهِ أَرْبَعُ عُقُوبَاتٍ لِلْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي كَيْفِيَّةِ تَنْفِيذِهَا ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ لِلتَّخْيِيرِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ، بِمَا شَاءَ مِنْهَا، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا لِتَفْصِيلِ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، جَعَلَ
اللهُ لِهَذَا الْإِفْسَادِ دَرَجَاتٍ مِنَ الْعِقَابِ ; لِأَنَّ إِفْسَادَهُمْ مُتَفَاوِتٌ ; مِنْهُ الْقَتْلُ، وَمِنْهُ السَّلْبُ، وَمِنْهُ هَتْكُ الْأَعْرَاضِ، وَمِنْهُ إِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ ; أَيْ قَطْعُ الشَّجَرِ، وَقَطْعُ الزَّرْعِ، وَقَتْلُ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ جَرِيمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ، فَلَيْسَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِي مُعَاقَبَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعَاقِبَ كُلًّا بِقَدْرِ جُرْمِهِ وَدَرَجَةِ إِفْسَادِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِقَدْرِ الْجَرَائِمِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَجَاءُوا فِيهِ بِفُرُوعٍ كَثِيرَةٍ تَرْجِعُ إِلَى الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي التَّقْدِيرِ وَمُرَاعَاةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْحُدُودِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، كَقَتْلِ الْقَاتِلِ وَقَطْعِ آخِذِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ كَالسَّارِقِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالسَّلْبِ، وَالنَّفْيِ لِمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا تَنْفِيهِ ; فَهُوَ اجْتِهَادٌ حَسَنٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ بِهَا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ كَافٍ ; لِأَنَّ لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْقُوَّةِ أَعْمَالًا أُخْرَى أَشَرْنَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا آنِفًا، فَإِذَا قَامَتْ عِصَابَةٌ مُسَلَّحَةٌ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ بِخَطْفِ الْعَذَارَى أَوِ الْمُحْصَنَاتِ لِأَجْلِ الْفُجُورِ بِهِنَّ، أَوْ بِخَطْفِ الْأَوْلَادِ لِأَجْلِ بَيْعِهِمْ أَوْ فِدْيَتِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تُعَدُّ مِنَ الْمُخَرِّبِينَ الْمُفْسِدِينَ، فَمَا حُكْمُ اللهِ فِيهِمْ؟ إِنَّ الْآيَةَ حَدَّدَتْ لِعِقَابِ الْمُفْسِدِينَ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَتَرَكَتْ لِأُولِي الْأَمْرِ الِاجْتِهَادَ فِي تَقْدِيرِهَا بِقَدْرِ جَرَائِمِهِمْ، فَلَا هِيَ خَيَّرَتِ الْإِمَامَ بِأَنْ يَحْكُمَ بِمَا شَاءَ مِنْهَا عَلَى مَنْ شَاءَ بِحَسَبِ هَوَاهُ، وَلَا هِيَ جَعَلَتْ لِكُلِّ مَفْسَدَةٍ عُقُوبَةً مُعَيَّنَةً مِنْهَا، وَالْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَعْيِينِ الْآيَةِ وَتَفْصِيلِهَا لِلْفُرُوعِ وَالْجُزْئِيَّاتِ هِيَ أَنَّ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ كَثِيرَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute