للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَنْوَةً، وَاللُّصُوصُ يَأْكُلُونَهَا كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا خِفْيَةً، فَلَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عِقَابَ أُولَئِكَ، وَأَمْرَ بِالتَّقْوَى وَابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ - وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الْإِيمَانُ، وَتَتَهَذَّبُ بِهَا النُّفُوسُ حَتَّى تَنْفِرَ مِنَ الْحَرَامِ - بَيَّنَ عِقَابَ هَؤُلَاءِ أَيْضًا، جَمْعًا بَيْنَ الْوَازِعِ النَّفْسِيِّ ; وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ، وَالْوَازِعِ الْخَارِجِيِّ ; وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْعِقَابِ وَالنَّكَالِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) أَيْ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُهُمَا، وَيُبَيَّنُ لَكُمْ حَدُّهُمَا، كَمَا بُيِّنَ لَكُمْ حَدُّ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ مِثْلِهِمَا، فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. أَوِ التَّقْدِيرُ: وَكُلٌّ مِنَ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، كَمَا تَقْطَعُونَ أَيْدِيَ الْمُحَارِبِينَ إِذَا سَلَبَا الْمَالَ مِثْلَهُمَا، وَالْمُرَادُ قَطْعُ يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا ; أَيْ إِذَا سَرَقَ الذَّكَرُ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَإِذَا سَرَقَتِ الْأُنْثَى تُقْطَعُ يَدُهَا، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْيَدَ، وَلَمْ يَقُلْ يَدَيْهِمَا ; لِأَنَّ فُصَحَاءَ الْعَرَبِ يَسْتَثْقِلُونَ إِضَافَةَ الْمُثَنَّى إِلَى ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ; أَيِ الْجَمْعَ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (٦٦: ٤) .

وَالْوَصْفُ هُنَا مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، فَقَرَنَ خَبَرَهُ بِالْفَاءِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ

عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الذَّنْبَيْنِ يَقَعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَأَرَادَ اللهُ زَجْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَتَغْلِيبِ وَصْفِ الذُّكُورَةِ وَضَمَائِرِهَا فِي الْكَلَامِ إِلَّا مَا خَصَّ الشَّرْعُ بِهِ الرِّجَالَ ; كَالْإِمَامَةِ وَالْقِتَالِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْيَدِ أَنَّهَا الْكَفُّ إِلَى الرُّسْغِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: (وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) (٥: ٦) وَإِنَّمَا تَقَعُ السَّرِقَةُ بِالْكَفِّ مُبَاشَرَةً، وَالسَّاعِدُ وَالْعَضُدُ يَحْمِلَانِ الْكَفَّ كَمَا يَحْمِلُهُمَا مَعَهَا الْبَدَنُ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ الْيَدَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إِيقَاعُ الْعَذَابِ عَلَى الْعُضْوِ الْمُبَاشِرِ لِلْجَرِيمَةِ، قَالُوا: إِنَّ الْيُمْنَى هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ ; لِأَنَّ التَّنَاوُلَ يَكُونُ بِهَا إِلَّا مَا شَذَّ.

(جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْحَدِّ ; أَيِ اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً لَهُمَا بِعَمَلِهِمَا وَكَسْبِهِمَا السَّيِّئِ، وَنَكَالًا وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمَا ; فَالنَّكَالُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّكْلِ، وَهُوَ بِالْكَسْرِ قَيْدُ الدَّابَّةِ، وَنَكَلَ عَنِ الشَّيْءِ: عَجَزَ أَوِ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ صَرَفَهُ عَنْهُ، فَالنَّكَالُ هُنَا: مَا يُنَكِّلُ النَّاسَ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَسْرِقُوا. وَلَعَمْرِ الْحَقِّ إِنَّ قَطْعَ الْيَدِ الَّذِي يَفْضَحُ صَاحِبَهُ طُولَ حَيَاتِهِ، وَيَسِمُهُ بِمَيْسَمِ الذُّلِّ وَالْعَارِ هُوَ أَجْدَرُ الْعُقُوبَاتِ بِمَنْعِ السَّرِقَةِ وَتَأْمِينِ النَّاسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَكَذَا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ ; لِأَنَّ الْأَرْوَاحَ كَثِيرًا مَا تَتْبَعُ الْأَمْوَالَ إِذَا قَاوَمَ أَهْلُهَا السُّرَّاقَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِمْ (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فَهُوَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي صُنْعِهِ وَفِي شَرْعِهِ، فَهُوَ يَضَعُ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ بِحَسَبَ الْحِكْمَةِ الَّتِي تُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>