الْقَتِيلِ؛ إِذْ كَانَ بَنُو النَّضِيرِ يَأْخُذُونَ دِيَةً كَامِلَةً عَلَى قَتْلَاهُمْ لِقُوَّتِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ يَأْخُذُونَ نِصْفَ دِيَةٍ لِضَعْفِهِمْ، وَقَدْ تَحَاكَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً - أَمْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ ; إِذْ كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ مُعَاهَدِينَ، أَمِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْقَضَايَا مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ الْمُرَجَّحُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ أَنَّ التَّخْيِيرَ خَاصٌّ بِالْمُعَاهَدِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ الْأَجَانِبِ الَّذِينَ هُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ مُخَيَّرُونَ، يُرَجِّحُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ مِنْ زَعْمَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ نُسِخَ مِنْ عُمُومِهَا التَّخْيِيرُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّخْيِيرَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذَا السِّيَاقِ: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) (٥: ٤٩) وَنَقُولُ: لَا يُعْقَلُ أَنْ تَنْزِلَ آيَاتٌ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَيَكُونُ بَعْضُهَا نَاسِخًا لِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْآيَةُ أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْقِسْطِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
(وَإِنْ تُعْرِضَ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا) أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ فَأَعْرَضْتَ، وَلَمْ تَحْكُمْ بَيْنَهُمْ، فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ، وَإِنْ سَاءَتْهُمُ الْخَيْبَةُ وَفَاتَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنْ خِفَّةِ الْحُكْمِ وَسُهُولَتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلتَّخْيِيرِ.
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أَيْ وَإِنِ اخْتَرْتَ الْحُكْمَ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ; أَيِ الْعَدْلِ، لَا بِمَا يَبْغُونَ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، وَبَيَّنَّا مَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِهِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ١٣٥ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ (ص٣٧٠ - ٣٧٣ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) وَالْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (ص٢٢٦ - ٢٢٧ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) وَالْمُقْسِطُونَ هُمُ الْمُقِيمُونَ لِلْقِسْطِ بِالْحُكْمِ بِهِ أَوِ الشَّهَادَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ فِي تَفْسِيرِ (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (٤: ٥٨) فَيُرَاجَعُ فِي الْمَنَارِ
(ص١٣٩ - ١٤٥ ج ٥ ط الْهَيْئَةِ) .
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنَ اللهِ لِنَبِيِّهِ بِبَيَانِ حَالٍ مَنْ أَغْرَبِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ شَرِيعَةٍ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، وَيَتَحَاكَمُونَ إِلَى نَبِيٍّ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ; أَيْ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ فِي قَضِيَّةٍ كَقَضِيَّةِ الزَّانِيَيْنِ، أَوْ قَضِيَّةِ الدِّيَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ، الَّتِي هِيَ شَرِيعَتُهُمْ، فِيهَا حُكْمُ اللهِ فِيمَا يُحَكِّمُونَكَ فِيهِ، ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ أَنْ رَضُوا بِهِ، وَآثَرُوهُ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ ; لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا؟ أَيْ إِذَا فَكَّرْتَ فِي هَذَا رَأَيْتَهُ مِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِالْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا بِالتَّوْرَاةِ، وَلَا بِكَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِمَّنْ جَاءَ فِيهِمْ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ) (٤٥: ٢٣)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute