وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَاتِ، أَنَّ قَوْلَهُ: (فَأُولَئِكَ هُمْ) . . . إِلَخْ، رَاجِعٌ إِلَى " وَمَنْ " بِحَسَبَ مَعْنَاهَا ; فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. وَأَمَّا فِعْلُ " يَحْكُمُ " فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِهَا، وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، يُرَاعِي اللَّفْظَ فِي الْأَوَّلِ لِقُرْبِهِ، وَيُرَاعِي الْمَعْنَى فِيمَا بَعْدَهُ.
(بَحْثٌ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَكَوْنِهِ كُفْرًا وَظُلْمًا وَفِسْقًا) الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ وَالْفِسْقُ كَلِمَاتٌ تَتَوَارَدُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَرِدُ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرٍ (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٢: ٢٥٤) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدِ اصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَمَا يُنَافِي دِينَ اللهِ الْحَقَّ، دُونَ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِنْكَارُ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى مَا لَيْسَ كُفْرًا فِي عُرْفِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: " كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ "، وَلَا إِطْلَاقِهِ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ فِي عُرْفِهِمْ، وَمَا كُلُّ ظُلْمٍ أَوْ فِسْقٍ يُعَدُّ كُفْرًا عِنْدَهُمْ، بَلْ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ ظُلْمًا أَوْ فِسْقًا ; لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْحُكْمُ الْقَاطِعُ بِالْكُفْرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مَحَلًّا لِلْبَحْثِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَ مَنْ يُوَفِّقُ بَيْنَ عُرْفِهِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ.
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ نَرَاهُمْ نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَقْوَالًا، مِنْهَا قَوْلُهُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ، وَمِنْهَا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، لَيْسَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَنَالَ هَذَا الْوَعِيدُ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَّا مِثْلَهُمْ، وَأَعْرَضَ عَنْ كِتَابِهِ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ كُتُبِهِمْ، وَالْقُرْآنُ عِبْرَةٌ يَعْبُرُ بِهِ الْعَقْلُ مِنْ فَهْمِ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ حُذَيْفَةُ: نِعْمَ الْإِخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ; أَنْ كَانَ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، كَلَّا وَاللهِ لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قَدَّ الشِّرَاكِ (أَيْ سَيْرَ النَّعْلِ) عَزَاهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ.
(قَالَ) : وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ ; إِنْ كَانَ مَا كَانَ مِنْ حُلْوٍ فَهُوَ لَكُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ مُرٍّ فَهُوَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ. . . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ. . . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ "، قَالَ: فَقُلْتُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا، قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ: لَا بَلْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا، ثُمَّ لَقِيتُ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، قُلْتُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا،
قَالَ: إِنَّهُ نَزَلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَزَلَ عَلَيْنَا، وَمَا نَزَلَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ فَهُوَ لَنَا وَلَهُمْ. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَسَأَلْتُهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ سَعِيدٌ وَمِقْسَمٌ، قَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute