للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مُصَدِّقًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ; كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ; أَيْ نَاطِقًا بِتَصْدِيقِ كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهَا لَمْ يَفْتَرُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى جِنْسِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْهَا وَشَهِيدٌ، بِمَا بَيَّنَهُ مِنْ حَقِيقَةِ حَالِهَا فِي أَصْلِ إِنْزَالِهَا، وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ خُوطِبُوا

بِهَا، مِنْ نِسْيَانِ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْهَا وَإِضَاعَتِهِ، وَتَحْرِيفِ كَثِيرٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا وَتَأْوِيلِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا، فَهُوَ يَحْكُمُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَهَا. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) يَعْنِي أَمِينًا عَلَيْهِ، يَحْكُمُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عِنْدَ الْفِرْيَابِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيِّ وَرُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: شَهِيدًا عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ.

لِسَانُ الْعَرَبِ: وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ " وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " قَالَ: الْمُهَيْمِنُ (أَيْ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ) : الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنْشَدَ:

أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ

(قَالَ) مَعْنَاهُ: الْقَائِمُ عَلَى النَّاسِ بَعْدَهُ، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ.

(قَالَ) وَفِي الْمُهَيْمِنِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُهَيْمِنُ الْمُؤْتَمَنُ. وَقَالَ الْكَسَائِيُّ: الْمُهَيْمِنُ: الشَّهِيدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الرَّقِيبُ، يُقَالُ هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً: إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ، وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) مَعْنَاهُ وَقَبَّانًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: وَقَائِمًا عَلَى الْكُتُبِ. اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مَنْ يَقُومُ بِشُئُونِهِ، وَيَكُونُ لَهُ حَقُّ مُرَاقَبَتِهِ وَالْحُكْمُ فِي أَمْرِهِ بِحَقٍّ، كَمَا وَصَفَ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ خِلَافَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ الْمُرَاقَبَةَ وَالشَّهَادَةَ عَلَيْهِ.

وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ فَهِمَ مِنْ هَيْمَنَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهَا بِالْحِفْظِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ. وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْمُهَيْمِنِ: الشَّهِيدَ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَحَكَّمُوا فِي شَهَادَتِهِ كَمَا يَشَاءُونَ؟ أَمِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى مَا قَالَهُ فِي شَأْنِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَأَهْلِهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ نَصُّ شَهَادَتِهِ لَهَا وَلَهُمْ أَوْ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِمْ؟ وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَحَسْبُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا فِي كُلٍّ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ قَبْلَهَا إِنَّهُمْ " أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ "، وَقَالَ فِيهِمَا جَمِيعًا إِنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: (آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) (٢: ١٣٦) الْآيَةَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>