الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)) ثُمَّ قَرَأَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٣: ٢٦٨) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَالرِّوَايَةُ: ((إِيعَادٌ)) فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَمَا قَالُوهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ أَغْلَبِيٌّ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاللَّمَّةُ بِالْفَتْحِ الْإِلْمَامُ بِالشَّيْءِ وَالْإِصَابَةُ.
(قَالَ الْأُسْتَاذُ) وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَذْهَبًا آخَرَ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْمَلَائِكَةِ: وَهُوَ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ مُوَكَّلِينَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ إِنْمَاءِ نَبَاتٍ وَخِلْقَةِ حَيَوَانٍ وَحِفْظِ إِنْسَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْخَاصَّةِ بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النُّمُوَّ فِي النَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِرُوحِ خَاصٍّ نَفَخَهُ اللهُ فِي الْبَذْرَةِ فَكَانَتْ بِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَكُلُّ أَمْرٍ كُلِّيٍّ قَائِمٍ بِنِظَامٍ مَخْصُوصٍ تَمَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي إِيجَادِهِ، فَإِنَّمَا قِوَامُهُ بِرُوحٍ إِلَهِيٍّ
سُمِّيَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَلَكًا، وَمَنْ لَمْ يُبَالِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالتَّوْقِيفِ يُسَمِّي هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ، إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مِنْ عَالَمِ الْإِمْكَانِ إِلَّا مَا هُوَ طَبِيعَةٌ أَوْ قُوَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الطَّبِيعَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ هُوَ أَنَّ فِي بَاطِنِ الْخِلْقَةِ أَمْرًا هُوَ مَنَاطُهَا، وَبِهِ قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ مَلَكًا وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ قُوَّةً طَبِيعِيَّةً أَوْ نَامُوسًا طَبِيعِيًّا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ. فَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ وَالْعَاقِلُ مَنْ لَا تَحْجِبُهُ الْأَسْمَاءُ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ (وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَرَى لِلْأَرْوَاحِ وَجُودًا لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ الرُّوحَ وَلَكِنْ أَعْرِفُ قُوَّةً لَا أَفْهَمُ حَقِيقَتَهَا. وَلَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ عَلَامَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ، وَكَلٌّ يُقِرُّ بِوُجُودِ شَيْءٍ غَيْرِ مَا يَرَى وَيُحِسُّ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَا يَصِلُ بِعَقْلِهِ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَمَاذَا عَلَى هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَقَدِ اعْتَرَفَ بِمَا غُيِّبَ عَنْهُ لَوْ قَالَ: أُصَدِّقُ بِغَيْبٍ أَعْرِفُ أَثَرَهُ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أُقَدِّرُهُ قَدْرَهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، وَيَفْهَمُ بِذَلِكَ مَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَيَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ؟) .
يَشْعُرُ كُلُّ مَنْ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَوَازَنَ بَيْنَ خَوَاطِرِهِ عِنْدَمَا يَهِمُّ بِأَمْرٍ فِيهِ وَجْهٌ لِلْحَقِّ أَوْ لِلْخَيْرِ، وُوَجْهٌ لِلْبَاطِلِ أَوْ لِلشَّرِّ، بِأَنَّ فِي نَفْسِهِ تَنَازُعًا كَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ عُرِضَ فِيهَا عَلَى مَجْلِسِ شُورَى فَهَذَا يُورِدُ وَذَاكَ يَدْفَعُ، وَاحِدٌ يَقُولُ: افْعَلْ، وَآخَرُ يَقُولُ: لَا تَفْعَلْ، حَتَّى يَنْتَصِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، وَيَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَاطِرَيْنِ، فَهَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أُودِعَ فِي أَنْفُسِنَا، وَنُسَمِّيهِ قُوَّةً وَفِكْرًا - وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَى لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، وَرُوحٌ لَا تُكْتَنَهُ حَقِيقَتُهَا، لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ اللهُ - تَعَالَى - مَلَكًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute