للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ إِجْلَاءَ عُمَرَ مَنْ أَجْلَاهُمْ مِنْهُمْ فِي خِلَافَتِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ الذُّنُوبِ لِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَهَا يُوبِقُهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعِقَابُ عَلَى جَمِيعِهَا؟ وَهُوَ كَمَا تَرَى، ثُمَّ قَالَ: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) أَيْ لَا يَرُعْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مَا تَرَاهُ مِنْ فُسُوقِهِمْ

مِنْ دِينِهِمْ، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى دِينِكَ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدْ صَارَ الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالتَّمَرُّدُ مِنْ صِفَاتِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمْ.

(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ " يَبْغُونَ " بِفِعْلِ الْغَيْبَةِ ; لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنِ الْيَهُودِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ " تَبْغُونَ " عَلَى الِالْتِفَاتِ لِمُخَاطَبَتِهِمْ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّوْبِيخِ ; أَيْ أَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بِالْحَقِّ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَبْنِيَّ عَلَى الْهَوَى، وَتَرْجِيحَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ؟ رُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي خُصُومَةٍ مِمَّا كَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ جَعْلِ دِيَةَ الْقُرَيْظِيِّ ضِعْفَيْ دِيَةِ النَّضِيرِيِّ لِمَكَانِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ حُكْمًا مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بِدِينِهِ، وَيُذْعِنُونَ لِشَرْعِهِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَجْمَعُ الْحُسْنَيَيْنِ؛ مُنْتَهَى الْعَدْلِ وَالْتِزَامِ الْحَقِّ مِنَ الْحَاكِمِ، وَمُنْتَهَى الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ مِنَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا تَفْضُلُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْقَوَانِينَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقِيلَ: إِنَّ " اللَّامَ " هُنَا بِمَعْنَى " عِنْدَ " أَوْ لِلْبَيَانِ ; أَيْ إِنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ عِنْدَ الْمُوقِنِينَ، وَفِي نَظَرِهِمْ، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَمَضْمُونُ الْآيَةِ أَنَّ مِمَّا يَنْبَغِي التَّعَجُّبُ مِنْهُ مِنْ مُنَكَرَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَائِرِ، وَيُؤْثِرُونَهُ عَلَى حُكْمِ اللهِ الْعَادِلِ، وَالْحَالُ أَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الْعَدْلُ، الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُ الْخَلْقِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ تَفْضِيلُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، الَّذِي يُمَكِّنُ الظَّالِمِينَ الْأَقْوِيَاءَ مِنِ اسْتِذْلَالِ أَوِ اسْتِئْصَالِ الضُّعَفَاءِ، وَهُوَ شَرُّ الْأَحْكَامِ الْمُخَرِّبُ لِلْعُمْرَانِ، الْمُفْسِدُ لِلنِّظَامِ.

وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَاتِ أَنْ يُوجَدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَنْ هُمْ أَشَدُّ فَسَادًا فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ إِلَى حُكْمِ غَيْرِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اسْتِقْلَالَ الْبَشَرِ بِوَضْعِ الشَّرَائِعِ خَيْرٌ مِنْ شَرْعِ اللهِ تَعَالَى، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ شَرْعِ اللهِ وَلَا قَوَاعِدَهُ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي أَكْثَرُ مَا فِيهَا مِنْ

آرَاءِ أَفْرَادٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ، فَهُمْ يَنْتَقِدُونَ كَثِيرًا مِنْهَا بِعَدَمِ مُوَافَقَتِهَا لِمَصَالِحِ النَّاسِ تَارَةً، وَلِأَهْوَائِهِمْ تَارَةً أُخْرَى، يَحْتَجُّونَ بِضَرْبٍ مِنَ الْجَهْلِ عَلَى ضَرْبٍ آخَرَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>