للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِذْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ؛ يَدْعُونَهُ وَقُرَيْشًا لِيُدْخِلُوهُمْ حُصُونَهُمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِلَيْهِمْ يَسْتَنْزِلُهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، فَلَمَّا أَطَاعُوا لَهُ بِالنُّزُولِ أَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِالذَّبْحِ، وَفِيهَا أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُكَاتِبُونَ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ كَانَ يُكَاتِبُ يَهُودَ الْمَدِينَةِ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَنُّونَ إِلَيْهِمْ لِيَنْتَفِعُوا بِمَا لَهُمْ وَلَوْ بِالْقَرْضِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمَّا خَافُوا أَنْ يُدَالَ لِلْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَيَتَهَوَّدَ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُ: إِنَّهُ يَلْحَقُ بِفُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ فَيَتَنَصَّرَ مَعَهُ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرُوهُ، إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَاتُ، وَأَنَّ مَعْنَى جَعْلِهَا أَسْبَابًا لِنُزُولِهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَنْتَظِمُهَا، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ النَّصْرِ وَالْمُظَاهَرَةِ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ ; إِذْ كَانُوا حَرْبًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَاتِلْ إِلَّا مَنْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِقِتَالِهِ، وَمَعْنَاهَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَالٍ كَالْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْمُرَادَ بِالْوِلَايَةِ وِلَايَةُ التَّنَاصُرِ وَالْمُحَالَفَةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِأَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ دُونَ جُمْلَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ

وَغَيْرَهُمْ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ لَهُمُ الْيَدَ عِنْدَهُمْ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِبَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَثَبَاتِ أَهْلِهِ. وَلَوْلَا هَذَا لَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، لَا لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَلَّا يُحَالِفَ أَهْلُهُ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ. كَيْفَ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَفَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ عَقِبَ الْهِجْرَةِ؟ بَلْ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي حَنَقٍ شَدِيدٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَحَسَدٍ لِلْعَرَبِ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَلَا يُوثَقُ بِوَفَائِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلِ السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ أَنْ يُوَالِيَ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الْمُعَادِينَ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيُعَاهِدُونَهُمْ عَلَى التَّنَاصُرِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ رَجَاءَ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى نَصْرِهِمْ إِذَا خُذِلَ الْمُسْلِمُونَ وَغُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ. وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ هِيَ أَنَّ مُعَادَاتِهِمْ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانَتْ بِحَسَبِ جِنْسِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ، لَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كِتَابَهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ.

هَذَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ النَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (٦٠: ١) . . . إِلَخْ. وَقَدْ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ لَمَّا كَتَبَ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِعَزْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَرْبِهِمْ

;

<<  <  ج: ص:  >  >>