للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مُعَاشَرَةَ الْأَحْبَابِ (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ ; أَيْ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى خِلَافِكُمْ، يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لِاتِّحَادِهِمْ فِي الدِّينِ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُضَادَّتِكُمْ (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أَيْ وَمَنْ وَالَاهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ جُمْلَتِهِمْ، وَهَذَا التَّشْدِيدُ فِي وُجُوبِ مُجَانَبَتِهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا "، أَوْ لِأَنَّ الْمُوَالِينَ لَهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ. اهـ. هَكَذَا خَصَّ الْبَيْضَاوِيُّ الْوِلَايَةَ بِمُعَاشَرَةِ الْمَحَبَّةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَشْخَاصِ فِي

الْأُمُورِ، وَهُوَ خَطَأٌ تَتَبَرَّأُ مِنْهُ لُغَةُ الْآيَةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَسِيَاقِهَا، كَمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَالْحَالَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْكِتَابِيُّونَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَسَبَبُ وُقُوعِ الْبَيْضَاوِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ، اعْتِمَادُهُ عَلَى مِثْلِ الْكَشَّافِ فِي فَهْمِ الْآيَاتِ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى تَفَاسِيرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَرْسَخُ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ قَدَمًا، وَأَدَقُّ فَهْمًا وَذَوْقًا ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ بِقَوْلِهِ: " تَنْصُرُونَهُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونَهُمْ " وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ وِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، فَأَخَذَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَعْنَى الثَّانِي بِعِبَارَةٍ تَسْتَحِقُّ مِنَ النَّقْدِ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ عِبَارَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ.

وَأَخْطَأَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي إِيرَادِ حَدِيثِ " لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا " فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ ; فَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُصْرَتِهِ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، أَمَّا أَبُو دَاوُدَ فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، وَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً لَمْ يَذْكُرُوا جَرِيرًا ; أَيْ رَوَوْهُ مُرْسَلًا، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ النَّسَائِيُّ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا، وَقَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ. وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحُ الْمُرْسَلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْهُ فِي صَحِيحِهِ، وَلَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ (أَيِ الدِّيَةِ) وَقَالَ: " أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ؟ قَالَ: لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا "، فَجَعَلَ لَهُمْ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ ; لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَسْقَطُوا نِصْفَ حَقِّهِمْ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَدَّدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَنْ نَصْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (٨: ٧٢) فَنَفَى تَعَالَى وِلَايَةَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ ; إِذْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً، فَلَأَنْ يَنْفِيَ وِلَايَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَقَدْ كَانُوا مُحَارِبِينَ أَيْضًا - أَوْلَى. فَذِكْرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَصِحُّ وَضْعُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ، إِنَّمَا

يُنَاسِبُهُ مَا قُلْنَا آنِفًا، فَهُوَ لَا يَدُلُّ - إِذَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ - عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>