للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلَمَّا ذُكِرَ عِيسَى جَحَدُوا

نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا لَا نُؤْمِنُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) . . . إِلَخْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَتَعُمُّ كُلَّ نَاقِمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) مَا نَبَّهَنَا عَلَى مِثْلِهِ مِنْ دِقَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ ; إِذْ يَحْكُمُ عَلَى الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ، وَمَا عَمَّ إِلَّا وَاسْتَثْنَى، وَقَدْ كَانَ وَلَا يَزَالُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ أُنَاسٌ لَا يَزَالُونَ مُعْتَصِمِينَ بِأُصُولِ الدِّينِ وَجَوْهَرِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَحُبِّ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُسَارِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ إِذَا عَرَفُوهُ بِقَدْرِ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْ جَوْهَرِ الدِّينِ وَنُورِ الْبَصِيرَةِ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا كَانَ مِنْ طُرُوءِ التَّحْرِيفِ عَلَى دِينِهِمْ، وَنِسْيَانِ حَظٍّ وَنَصِيبٍ مِمَّا نَزَلَ إِلَيْهِمْ.

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) الْمَثُوبَةُ كَالْمَقُولَةِ مِنْ ثَابَ الشَّيْءُ يَثُوبُ، وَثَابَ إِلَيْهِ، إِذَا رَجَعَ ; فَهِيَ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَزَاءِ الْحَسَنِ أَكْثَرُ، وَقِيلَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْجَزَاءِ السَّيِّئِ تَهَكُّمٌ، وَالْمَعْنَى هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِنَا وَأَذَانِنَا بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْ عَمَلِكُمْ هَذَا ثَوَابًا وَجَزَاءً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؟ وَهَذَا السُّؤَالُ يَسْتَلْزِمُ سُؤَالًا مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أَيْ إِنَّ الَّذِي هُوَ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ ثَوَابًا وَجَزَاءً عِنْدَ اللهِ، هُوَ عَمَلُ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ، أَوْ جَزَاءُ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ. . . إِلَخْ. فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) (٢: ١٨٩) وَقَوْلِهِ: (وَلَكِنَّ الْبَرَّ مِنْ آمَنَ بِاللهِ) (٢: ١٧٧) وَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ؟ هُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ. . . إِلَخْ. كَمَا تَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ مَنِ اتَّقَى.

انْتَقَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَبْكِيتِ الْيَهُودِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى هُزُئِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ، إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ تَبْكِيتًا وَتَشْنِيعًا عَلَيْهِمْ، بِمَا فِيهِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِسُوءِ حَالِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى فِسْقِهِمْ، وَتَمَرُّدِهِمْ بِأَشَدِّ مَا جَازَى اللهُ تَعَالَى بِهِ الْفَاسِقِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اللَّعْنُ وَالْغَضَبُ، وَالْمَسْخُ الصُّورِيُّ أَوِ الْمَعْنَوِيُّ، وَعِبَادَةُ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ عَظُمَ شَأْنُ هَذَا الْمَعْنَى بِتَقْدِيمِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَيْهِ، الْمُشَوِّقِ إِلَى الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْمُنْبِأِ عَنْهُ.

أَمَّا لَعْنُ اللهِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ مَعَ سَبَبِهِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ

تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَكَذَا هَذِهِ السُّورَةُ (الْمَائِدَةُ) فَسَيَأْتِي فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، خَبَرُ لَعْنِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَبَعْضُ ذَلِكَ اللَّعْنِ مُطْلَقٌ، وَبَعْضُهُ مُقَيَّدٌ بِأَعْمَالٍ لَهُمْ ; كَنَقْضِ الْمِيثَاقِ. وَالْفِرْيَةِ عَلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، وَتَرْكِ التَّنَاهِي عَنِ الْمُنْكَرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>