للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَمَا خَلْفَكَ، وَأَنَّ اللهَ ذَكَرَهَا لَكَ بِمَا كَانَ يَعْرِفُهَا سَلَفُكَ، وَبِالْعِبَارَةِ الَّتِي تَلَقَّفْتَهَا عَنْهُمْ كَيْلَا يُوحِشَكَ بِمَا يُدْهِشُكَ، وَتَرَكَ لَكَ النَّظَرَ فِيمَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنْ وُجُوهٍ تَعْرِفُهَا، أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَرْوَحُ لِنَفْسِكَ وَأَدْعَى إِلَى طُمَأْنِينَةِ عَقْلِكَ؟ أَفَلَا تَكُونُ قَدْ أَبْصَرْتَ شَيْئًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَوَقَفْتَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ؟ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِكَ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ أَشِعَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَكُنْتَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيُفَوِّضُ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُ: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) فَلَا تَرْمِ طُلَّابَ الْعِرْفَانِ بِالرَّيْبِ مَا دَامُوا يُصَدِّقُونَ بِالْكِتَابِ الَّذِي آمَنْتَ بِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ الَّذِي صَدَّقْتَ بِرِسَالَتِهِ، وَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ أَعْلَى مِنْكَ كَعْبًا وَأَرْضَى مِنْكَ بِرَبِّهِمْ نَفْسًا، أَلَا إِنَّ مُؤْمِنًا لَوْ مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى فَهْمِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا قُلْنَا كَانَ مِنْ دِينِهِ فِي ثِقَةٍ، وَمِنْ فَضْلِ رَبِّهِ فِي سَعَةٍ) اهـ.

هَذَا مَا كَتَبَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْضِيحِ كَلَامِهِ فِي تَقْرِيبِ مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْكَائِنَاتِ مِنْ لَفْظِ الْقُوَى إِلَى مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَفْقَهُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْقُوَى وَإِسْنَادِ كُلِّ أَحْدَاثِ الْكَائِنَاتِ وَتَطَوُّرَاتِهَا إِلَيْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِجَهْلِ كُنْهِهَا، وَإِلْمَامٌ أَيْضًا بِمَا كَانَ يَقُولُهُ قُدَمَاءُ الْيُونَانِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا مُدَبِّرًا هُوَ الْمُسَيِّرُ لِنِظَامِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَرْبَابِ

خَاضِعَةٌ لِلرَّبِّ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَالْمَعْنَى الْعَامُّ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ هُوَ أَنَّ أَحْدَاثَ هَذَا الْعَالَمِ وَتَغَيُّرَاتِهَا وَتَطَوُّرَاتِهَا وَالنِّظَامَ فِيهَا كُلِّهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ خَفِيٍّ غَيْرِ أَجْزَاءِ مَادَّتِهَا، فَالتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا بِاصْطِلَاحَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الشِّرْكِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَعْبِيرُ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْطِيلِ، وَتَعْبِيرُ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي حَرَّرَ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يُمْكِنُ إِذْعَانُ الْعُقَلَاءِ لَهَا وَهِيَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْحَقِيقِيَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ نِظَامَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْ نَاطَهُ سُبْحَانَهُ بِمَوْجُودَاتٍ رُوحِيَّةٍ خَفِيَّةٍ ذَاتِ قُوًى عَظِيمَةٍ جِدًّا سُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ وَحْدَهَا لَا تُعْطِي أَحَدًا عِلْمَ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الْحَقِيقَةَ لَا يَحْجُبُهَا عَنْهُ اخْتِلَافُ التَّسْمِيَةِ، وَأَرَادَ بِهَذَا أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَادِّيِّينَ وَيُقْنِعَهُمْ بِصِحَّةِ مَا جَاءَ الْوَحْيُ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِهِمُ الْمُسَلَّمِ عِنْدَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صَفْحَةِ ٢٢٣ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عُبَّادُ الْأَلْفَاظِ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مُرَادَهُ، وَهُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي الْإِقْنَاعِ بِحَقِّيَّةِ الدِّينِ كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَحَدُ نَوَابِغِ رِجَالِ الْقَضَاءِ الْأَذْكِيَاءِ: إِنَّكَ بِتَفْسِيرِكَ لِلْقُرْآنِ بِالْبَيَانِ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَأْبَاهُ الْعِلْمُ قَدْ قَطَعْتَ الطَّرِيقَ عَلَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ الْوَقْتُ الَّذِي يَهْدِمُونَ فِيهِ الدِّينَ وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ قُيُودِهِ وَجَهْلِ رِجَالِهِ وَجُمُودِهِمْ.

وَإِنَّنِي أَنَا قَدْ جَرَّبْتُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي اسْتَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ - تَعَالَى - فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا لَهَا دَحْضًا، ذَلِكَ بِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ إِلَهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>