كَلِمَةِ " لَتَجِدَنَّ " تَأْكِيدَانِ: لَامُ الْقَسَمِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ، وَنُونُ
التَّوْكِيدِ فِي آخِرِهَا، وَفِي الْخِطَابِ بِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَانِيهُمَا: أَنَّهُ لِكُلِّ مَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ، وَفِي " النَّاسِ " الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ هَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَهُودُ الْحِجَازِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ شَعْبٍ وَجِيلٍ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ مَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا صِدْقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أَشَدَّ مَا لَاقَى بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ قَدْ كَانَ مِنْ يَهُودِ الْحِجَازِ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَلَا سِيَّمَا مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا، وَلَمْ يَرَ مِنَ الْعَدَاوَةِ مِثْلَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ، بَلْ رَأَى مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ أَحْسَنَ الْمَوَدَّةِ بِحِمَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحَبَشَةِ ; خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُشْرِكِيهَا الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُمْ أَشَدَّ الْإِيذَاءِ; لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، وَلَا يَنْفِي هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ.
لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْمُلُوكِ وَرُؤَسَاءِ الشُّعُوبِ، كَانَ النَّصَارَى مِنْهُمْ أَحْسَنَهُمْ رَدًّا; فَهِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ فِي الشَّامِ حَاوَلَ إِقْنَاعَ رَعِيَّتِهِ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا لَمَّ يَقْبَلُوا لِجُمُودِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ، وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ حَقِيقَةَ الدِّينِ الْجَدِيدِ، اكْتَفَى بِالرَّدِّ الْحَسَنِ، وَالْمُقَوْقِسُ عَظِيمُ الْقِبْطِ فِي مِصْرَ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ رَدًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَيْلًا، وَأَرْسَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً حَسَنَةً، ثُمَّ لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ وَالشَّامُ عَرَفَ أَهْلُهَا مَزِيَّةَ الْإِسْلَامِ، دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَكَانَ الْقِبْطُ أَسْرَعَ لَهُ قَبُولًا.
وَقَدْ كَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ رَسُولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ، وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الْأَعْلَى (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ٧٩: ٢٥) فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ، فَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلَا يَعْتَبِرُ بِكَ غَيْرُكَ، فَقَالَ (الْمُقَوْقِسُ) : إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، فَقَالَ حَاطِبٌ: نَدْعُوكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَافِي بِهِ اللهُ فَقْدَ سِوَاهُ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ دَعَا النَّاسَ
فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ الْيَهُودُ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النَّصَارَى، وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ مُوسَى بِعِيسَى إِلَّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ، وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ، إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الْإِنْجِيلِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ أُمُّتُهُ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَلَكِنَّا نَأْمُرُكَ بِهِ (أَيْ هُوَ الْإِسْلَامُ عَيْنُهُ) فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ: إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute