مِنَ الْبَسَاتِينِ أَوْ غَيْضَةٌ مِنَ الْغِيَاضِ كَانَ آدَمُ وَزَوْجُهُ مُنَعَّمِينَ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْنَا تَعْيِينُهَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْ مَكَانِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ خَاضَ فِي تَعْيِينِ مَكَانِهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَنْحَلُّ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ:
١ - أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ لِيَكُونَ هُوَ وَنَسْلُهُ خَلِيفَةً فِيهَا، فَالْخِلَافَةُ مَقْصُودَةٌ مِنْهُمْ بِالذَّاتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً عَارِضَةً.
٢ - أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ حَصَلَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
٣ - أَنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، فَكَيْفَ دَخَلَهَا الشَّيْطَانُ الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ؟ .
٤ - أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّكْلِيفِ.
٥ - أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ فِيهَا مِنَ التَّمَتُّعِ مِمَّا يُرِيدُ مِنْهَا.
٦ - أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهَا الْعِصْيَانُ.
وَبِالْجُمْلَةِ: إِنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا الْجَنَّةُ الْمَوْعُودُ بِهَا لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا كَانَ فِي جَنَّةِ آدَمَ، وَمِنْهُ كَوْنُ عَطَائِهَا غَيْرَ مَجْذُوذٍ وَلَا مَقْطُوعٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
(أَقُولُ) : وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِشْكَالَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ أَطَالَ فِي بَيَانِهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (حَادِي الْأَرْوَاحِ) وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْوَقْفِ وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا أَقْوَى، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَدْ كَانَ ظَهَرَ لِي عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ شَيْءٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَلَمْ أَرَهُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ آدَمَ أُسْكِنَ جَنَّةَ الْآخِرَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآخِرَةُ هِيَ الدَّارُ الْأُولَى وَالدُّنْيَا، فَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ لِلدَّارَيْنِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيُنَافِي أَيْضًا كَوْنَ الْجَنَّةِ دَارَ ثَوَابٍ يَدْخُلُهَا الْمُتَّقُونَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وَلَمْ يَقُلْ: (ادْخُلْ) وَلَوِ انْتَقَلَ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا إِلَى الْجَنَّةِ لَقَالَ هَذَا أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى الِانْتِقَالِ، فَقَوْلُهُ: (اسْكُنْ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْخِلْقَةَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) إِبَاحَةٌ لِلتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ
الْجَنَّةِ وَالتَّنَعُّمِ بِمَا فِيهَا أَيْ كُلَا مِنْهَا أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا هَنِيًّا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا نَهَاهُمَا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) لِأَنْفُسِكُمَا بِالْوُقُوعِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَلَمْ يُعَيِّنِ اللهُ - تَعَالَى - لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَا نَقُولُ فِي تَعْيِينِهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهُ، وَلَعَلَّ فِي خَاصِّيَّةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مَا هُوَ سَبَبُ خُرُوجِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ،