نَهَى عَنِ النَّبْذِ فِي الْأَوَانِي الَّتِي يُسْرِعُ إِلَيْهَا الِاخْتِمَارُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَوَاءِ فِيهَا كَالْحَنْتَمِ، أَيْ جِرَارِ الْفَخَّارِ الْمَطْلِيَّةِ، وَالنَّقِيرِ أَيْ جُذُوعِ النَّخْلِ الْمَنْقُورِ، وَالْمُزَفَّتِ وَهُوَ الْمُقَيَّرُ أَيِ الْمَطْلِيُّ بِالْقَارِ وَهُوَ الزِّفْتُ، وَالدُّبَّاءُ، وَهُوَ الْقَرْعُ الْكَبِيرُ ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحَلُّ وَلَا تُحَرَّمُ، وَأَذِنَ بِالنَّبْذِ فِي كُلِّ وِعَاءٍ مَعَ تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إِلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيَسْقِي الْخَادِمَ أَوْ يُهَرَاقُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، أَيْ يَصِيرُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَظِنَّةَ الْإِسْكَارِ، فَهَذِهِ نِهَايَةُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا النَّبِيذُ غَالِبًا وَفِي آخِرِهَا كَانَ يَحْتَاطُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَشْرَبُهُ، بَلْ وَلَا يَسْقِيهِ الْخَادِمَ أَوْ يُرِيقُهُ لِئَلَّا يَخْتَمِرَ وَيَشْتَدَّ فَيَصِيرَ خَمْرًا، وَالْعِبْرَةُ بِالْإِسْكَارِ وَعَدَمِهِ.
(فَائِدَةٌ تَتْبَعُهَا قَاعِدَةٌ) عُلِمَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَهِمَ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَتَرَكَهَا، وَلَكِنَّ عُشَّاقَهَا وَجَدُوا مِنْهَا مَخْرَجًا بِالِاجْتِهَادِ، وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْذُرَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُخْطِئًا فِيهِ، وَقَدْ يُجِيزُهُ لَهُ إِذَا كَانَ قَاصِرًا عَلَيْهِ " أَجْنَبَ رَجُلٌ فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ إِذْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَصَبْتَ " وَ " أَجْنَبَ آخَرُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى إِذْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَذَكَرَهُ لَهُ كَالْأَوَّلِ، قَالَ لَهُ مَا قَالَ لِلْأَوَّلِ: أَصَبْتَ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَجَازَ عَمَلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِذْ تَيَمَّمَ لِلْجَنَابَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنَ الْبَرْدِ وَصَلَّى إِمَامًا، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢: ١٩٥) رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَكِنَّهُ قَالَ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاعْتَذَرَ بِالْجَنَابَةِ وَفَقْدِ الْمَاءَ: " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمِنْ تِلْكَ أَنَّ التَّحْرِيمَ الَّذِي كَلَّفَهُ جَمِيعَ النَّاسِ هُوَ مَا كَانَ نَصًّا صَرِيحًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَلِّفِ النَّاسَ إِرَاقَةَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَمْرِ إِلَّا عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ الصَّرِيحَةُ بِذَلِكَ، مَعَ كَوْنِهِ فَهِمَ مِنْ آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّعْرِيضِ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنَ التَّصْرِيحِ، إِلَّا أَنَّ التَّعْرِيضَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَهِمَهُ خَاصَّةً، وَالتَّصْرِيحُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ كَافَّةً، وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ سَبَبَ مَا كَانَ مِنْ تَسَاهُلِ السَّلَفِ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، وَعَدَمِ تَضْلِيلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِمُخَالِفِهِ، وَتَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِهِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ لَا يُعَدُّ شَرْعًا يُعَامَلُ النَّاسُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُهُ مَنْ ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِمْ مِنْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ مِنْ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ دَلَالَتُهَا عَلَيْهِ غَيْرُ صَرِيحَةٍ، وَإِنَّ فِي تَعْرِيضِ كَلَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثُ تَتِمَّةً فِي تَفْسِيرِ: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute