وَالِاتِّصَافِ بِالْقُبْحِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَهَانَةِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ فَأُعْجِبَ بِالْجَوَابِ وَأَذْعَنَ لَهُ.
(شُبْهَةٌ لِعُشَّاقِ الْخَمْرِ وَدَحْضُهَا) .
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْخَمْرِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَمَا تَكُونُ مُوقِعَةً فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ قَالُوا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: " مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ عَمِلُوا " كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (٢: ١٤٣) لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) وَلَا شَكَّ أَنَّ (إِذَا) لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا الْمَاضِي وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأَئِمَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: عَنْ كَلِمَةِ " إِذَا " لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي، فَجَوَابُهُ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: " يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ؟ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا "؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ (الْصَوَابُ الْآيَةَ) وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحِلُّ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَكِنْ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمَّ يَبْلُغْهُمْ هَذَا النَّصُّ: انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ بِحُرُوفِهِ.
وَأَقُولُ إِنَّ جَوَابَهُ ضَعِيفٌ فِيمَا أَقَرَّهُ وَفِيمَا رَدَّهُ إِلَّا نَقْلَ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ غَيْرَ دَقِيقٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ اللُّغَةِ حَتَّى إِنَّ عِبَارَتَهُ نَفْسَهَا ضَعِيفَةٌ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى احْتِجَاجِ أَصْحَابِ هَذَا التَّحْرِيفِ:
(أَوْلًا) إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) إِلَخْ، لَيْسَ خَبَرًا عَمَّنْ نَزَلَتِ
الْآيَةُ بِسَبَبِ السُّؤَالِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ إِنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى، يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَحُكْمُ مَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عَهْدِهِمْ وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ، وَحُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَهَمُّ فَائِدَةً مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ خَاصَّةً.
(ثَانِيًا) إِنَّ قَوْلَ الْمُشْتَبِهِينَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الَّذِينَ مَاتُوا لَقَالَ: " مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا " بَاطِلٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّأْنِ لَا عَلَى نَفْيِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute