للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدِ اعْتَقَلَهُ لِسُكْرِهِ، تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَلَّلَ تَوْبَتَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ عَالِمًا أَنَّ الْعِقَابَ الشَّرْعِيَّ يُطَهِّرُهُ، وَإِذْ حَابَوْهُ بِهِ كَمَا ظَنَّ

تَابَ إِلَى اللهِ تَعَالَى خَوْفًا مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْ سَعْدٌ عِقَابَهُ مُحَابَاةً كَمَا ظَنَّ بَلْ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُقَامُ فِي حَالِ الْغَزْوِ، وَلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالتَّعْزِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عِقَابَ السُّكْرِ تَعْزِيرٌ وَأَنَّ سَعْدًا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى تَرْكِ تَعْزِيرِ أَبِي مِحْجَنٍ بَعْدَ أَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ مَا أَبْلَى، وَلَا مُطَهِّرَ مِنَ الذَّنْبِ أَقْوَى مِنْ هَذَا. وَهَلْ يُوجَدُ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُشَابِهُونَ أَبَا مَحْجَنٍ فِي قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَقُوَّةِ عَزِيمَتِهِ فِي دِينِهِ؟

(بَعْضُ الْعِبَرِ فِي الْخَمْرِ) .

مِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ الَّذِي يَسْتَبِيحُونَ شُرْبَ الْخَمْرِ دِينًا، وَيَسْتَحْسِنُونَهُ أَدَبًا وَمَدَنِيَّةً، وَيَصْنَعُونَ مِنْهُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً يَرْبَحُونَ مِنْهُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّنَانِيرِ فِي كُلِّ عَامٍ قَدْ أَلَّفُوا جَمْعِيَّاتٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخُمُورِ وَالسَّعْيِ لِإِبْطَالِهَا، وَأَقْوَى هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ نُفُوذًا وَتَأْثِيرًا فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ وَمِنْ عَجَائِبِ وَقَائِعِ تَقْلِيدِ مُتَفَرْنِجِي الْمُسْلِمِينَ لِلْإِفْرِنْجِ مَيْلُ بَعْضِهِمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ وَتَأْلِيفِ الْفُرُوعِ لَهَا فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ فِي هَذَا، وَمَا أَجْدَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْمَتْبُوعِينَ.

وَمِنْ آيَاتِ الْعِبْرَةِ فِيهَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعُدُّونَ مِنْ مَنَافِعَ الْخَمْرِ الْحَمَاسَةَ فِي الْحَرْبِ وَقُوَّةَ الْإِقْدَامِ فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ السُّكْرَ يُضْعِفُ الْجُنُودَ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْحَرْبِ وَاحْتِمَالِ أَثْقَالِهَا، فَقَرَّرَتْ بَعْضُ الدُّوَلِ إِبْطَالَ الْخُمُورِ الْوَطَنِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الرَّوَاجِ فِي بِلَادِهَا - وَأَكْثَرُ انْتِفَاعِهَا الْمَالِيِّ مِنْهَا - مُدَّةَ الْحَرْبِ، وَلَعَلَّ الدُّوَلَ كُلَّهَا تُجْمِعُ عَلَى هَذَا بَعْدُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يَزَالُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ يَتَمَلْمَلُونَ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْخَمْرِ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)

(٤١: ٥٣) .

(اسْتِدْرَاكَانِ)

الِاسْتِدْرَاكُ الْأَوَّلُ: الْخَمْرُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يُخَمَّرُ تَخْمِيرًا، وَنَوْعٌ يُقَطَّرُ تَقْطِيرًا، وَأَقْوَى الْخُمُورِ سُمًّا وَأَشَدُّهَا ضَرَرًا مَا كَانَتْ مُقَطَّرَةً، وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْأَشْرِبَةِ الرُّوحِيَّةِ وَهَذَا مِنْ مُرَجِّحَاتِ اخْتِيَارِنَا لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي تَعْلِيلِ تَسْمِيَةِ الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ مُخَامَرَتُهَا الْعَقْلَ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (ص٢٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ج٢ط الْهَيْئَةِ) وَالْمُرَجِّحُ الثَّانِي كَوْنُ هَذَا الْقَوْلِ لِإِمَامٍ مِنْ أَفْصَحِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ مِمَّا اسْتَنْبَطَهُ الْمُوَلَّدُونَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ نَقْلَهُ أَصَحُّ، فَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحِ وَكُتُبِ السُّنَنِ كَمَا تَقَدَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>