للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْخَلَفِ، قَدْ تَقَدَّمَ تَفْنِيدُ الْمَزَاعِمِ وَدَحْضُ الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَأَمْثَالُهِمْ كَالَّذِينِ زَعَمُوا أَنَّ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ قَدْ نُسِخَ، نَعَمْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي حَدِيثِ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي تُسْكِرُ، وَحَجَّاجٌ هَذَا ضَعِيفٌ وَمُدَلِّسٌ وَمَا زَعَمَهُ مَرْدُودٌ لُغَةً فَلَا يَقُولُهُ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُشِيرَ إِلَى تَعِلَّاتِ مَنْ يُقْدِمُونَ عَلَى شُرْبِ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ لِأَجْلِ السُّكْرِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَفَقَدَ فَاتَ زَمَنُ الَّذِينَ كَانُوا يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَالنَّاسَ بِتَرْكِ النَّبِيذِ الَّذِي هُوَ نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِهِمَا زَمَنًا يُسْكِرُ فِيهِ كَثِيرُهُ ثُمَّ قَلِيلُهُ وَيَشْرَبُونَهُ عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّهُ حَلَالٌ، فَإِنْ سَكِرُوا أَحَالُوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ الْكَثْرَةِ أَوْ عَلَى جَوْرِ السُّقَاةِ عَلَيْهِمْ وَكَابَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ السُّكْرَ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُتْرَفِينَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، حَتَّى عُزِيَ إِلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَبَعْضِ رِجَالِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ.

مَنِ اخْتَبَرَ حَالَ الْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِهِمْ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الْآخِرَةِ، يَرَى بَيْنَهُمَا شَبَهًا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْوِي فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ يُذْكَرُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَنْ قَالُوا إِنَّ الْقَلِيلَ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ لَيْسَ كَالْكَثِيرِ فَيَكُونُ اطْمِئْنَانُهُمْ أَشَدَّ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النُّصُوصَ وَيُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَمِنْهُمُ الْمُتَفَقِّهَةُ وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَالْمُتَفَقِّهَةُ يُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوَّلًا بِمَسْأَلَةِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ فَنَّدْنَا شُبْهَتَهُمْ هَذِهِ فِيمَا سَبَقَ، وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عَفْوِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ التَّعَوُّدِ وَالْإِدْمَانِ، كَمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ هُمْ وَالْمُتَفَقِّهَةُ بَعْدَهُ عِنْدَمَا يَعْلَمُونَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْعَمَلِ أَنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ يُفْضِي إِلَى كَثِيرِهَا، وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قَدِ انْغَمَسَتْ فِي شُرُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا.

فَالتُّكَأَةُ الْأَخِيرَةُ لِمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ أَهْلِ الدِّينِ هِيَ تُكَأَةُ أَكْثَرِ الْمُرْتَكِبِينَ لِسَائِرِ الْمَعَاصِي وَهِيَ الْغُرُورُ بِكَرَمِ اللهِ وَعَفْوِهِ، إِمَّا بِضَمِيمَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا سِيَّمَا مَا يُسَمَّى مِنْهَا بِالْمُكَفِّرَاتِ، أَوْ عَلَى الشَّفَاعَاتِ، وَإِمَّا بِدُونِ ضَمِيمَةٍ، وَمِنْ مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مَا لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ وَمِنْهَا مَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَمَا لَهُ أَصْلٌ قَيَّدُوهُ بِالصَّغَائِرِ أَوْ بِمُقَارَنَةِ التَّوْبَةِ لَهُ، وَقَدْ فَنَّدْنَا جَهْلَ هَؤُلَاءِ وَغُرُورِهِمْ فِي مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ) : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤: ١٧) (رَاجِعْ ص٢٦٨ وَمَا بَعْدَهَا ج٤ط الْهَيْئَةِ) وَتَفْسِيرَ: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (٤: ٣١)

<<  <  ج: ص:  >  >>