التَّكْوِينِيَّةُ ظَاهِرَةً فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا، وَسَبَقَ مَا فِي مَعْنَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَأَمَّا فِي عَهْدِ الْإِسْلَامِ فَالتَّشْرِيعِيُّ أَظْهَرُ.
(ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ الْجَعْلَ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا مِنْهُ إِذَا تَأَمَّلْتُمْ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ فِي طَوْرِ جَاهِلِيَّتِهَا وَغَفْلَتِهَا وَتَفَانِيهَا فِي الْغَزْوِ وَالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْمَكَانِ، وَلِلْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ فِيهِ، وَلِلزَّمَنِ الَّذِي فِيهِ تُؤَدَّى هَذِهِ الْأَعْمَالُ هُنَالِكَ، مَنَعَهُمْ مِنَ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَانَ سَبَبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَقَدْ عَجَزَتْ جَمِيعُ أُمَمِهِمْ عَنِ الْحَضَارَةِ
وَالْمَدَنِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ بَلْهَ أُمَمِ الْبَدَاوَةِ عَنْ تَأْمِينِ النَّاسِ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَزَمَنٍ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِمَا قِتَالٌ وَلَا قَتْلٌ وَلَا عُدْوَانٌ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ فِي أَحْكَامِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ أَعْظَمَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ آنِفًا بِالْإِجْمَالِ، مِمَّا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ مِنْ حُكْمِ الْحَجِّ بِالتَّفْصِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ وَالْفَوَائِدُ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ قِيَامِ أَمْرِ النَّاسِ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، فَدَلَّ مَا ذَكَرَ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ قِيَامًا لِلنَّاسِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ عِلْمٍ بِخَفَايَا الْأُمُورِ وَغَايَاتِهَا، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَنِظَامِ الْخَلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، عَلَى أَنَّ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ أَعَمُّ وَأَظْهَرُ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ مِنْ جَعْلِهِ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ سَبَبًا لِدَفْعِ الشَّقَاوَةِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وَجَلْبَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْفَلَكِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِهِمَا بِحُسْبَانٍ، وَفِي عِلْمِ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، لَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الشُّبَهَاتِ مَا يَعْتَرِي السُّنَنَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَغْفَلُونَ عَنْهَا.
(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute