عَنِ الشَّيْءِ امْتِحَانًا أَوِ اسْتِهْزَاءً، وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ صَرِيحٍ أَوْ مُنَافِقٍ، وَالْخِطَابُ فِي الْآيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُمْكِنُ نَهْيًا لَهُمْ عَنْ سُؤَالٍ لِامْتِحَانٍ أَوِ اسْتِهْزَاءٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِالْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِي حَدِيثٍ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِمَعْنَاهُ: " فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ وَقَالَ: سَلُونِي " فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَرَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ السُّؤَالِ فِي الْآيَةِ لِهَذَا الْإِحْفَاءِ وَالْإِغْضَابِ الَّذِي آذَوْا بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ مَا شَرَطَ فِي النَّهْيِ وَمَا عَلَّلَ بِهِ يُنَافِي ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ لِلرِّوَايَاتِ وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَا يَأْتِي:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (أَشْيَاءَ) اسْمُ جَمْعٍ أَوْ جَمْعٌ لِكَلِمَةِ (شَيْءٍ) وَهِيَ أَهَمُّ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَوْجُودِ، فَتَشْمَلُ السُّؤَالَ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَقَائِدِ وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهَا ذِكْرُ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ أَوَّلًا بِالذَّاتِ النَّهْيُ عَنْ سُؤَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَدَقَائِقِ التَّكَالِيفِ، يَلِيهِ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ أَوِ الْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَغْرَاضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُهَا سَبَبًا لِلْمَسَاءَةِ، إِمَّا بِشِدَّةِ التَّكَالِيفِ وَكَثْرَتِهَا، وَإِمَّا بِظُهُورِ حَقَائِقَ تَفْضَحُ أَهْلَهَا، وَلَكِنَّ حَذْفَ مَفْعُولِ " تَسْأَلُوا " يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، أَيْ وَلَا تَسْأَلُوا غَيْرَ الرَّسُولِ عَنْ أَشْيَاءَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِبْدَاؤُهَا مَسَاءَتَكُمْ، فَهِيَ النَّهْيُ عَنِ الْفُضُولِ وَمَا لَا يُغْنِي الْمُؤْمِنَ.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ شَرْطَ " إِنْ " مِمَّا لَا يُقْطَعُ بِوُقُوعِهِ، وَالْجَزَاءُ تَابِعٌ لِلشَّرْطِ فِي الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) دُونَ " إِذَا
أُبْدِيَتْ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " دَالًّا عَلَى أَنَّ احْتِمَالَ إِبْدَائِهَا وَكَوْنَهُ يَسُوءُ كَافٍ فِي وُجُوبِ الِانْتِهَاءِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهَا.
وَبِهَذَا سَقَطَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ أَمْثِلَةَ الْمَائِلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْوَارِدَةِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مِمَّا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ إِبْدَائِهَا يَسُوءُ السَّائِلِينَ عَنْهَا، بَلْ يَحْتَمِلُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَسُرُّ، وَقَدْ كَانَ جَوَابُ مَنْ سَأَلَ عَنْ أَبِيهِ سَارًّا لَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْحَجِّ إِذْ كَانَ جَوَابُهُ التَّخْفِيفَ عَنْهُ وَعَنِ الْأُمَّةِ بِبَيَانِ كَوْنِ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا فِي كُلِّ عَامٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي كُلِّ سَائِلٍ عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَلَا يَظْهَرُ تَعْلِيلُ النَّهْيِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute