للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِلرَّسُولِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَمِنْهُ وَقْتُ السُّؤَالِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ إِنْ سُئِلَ عَنْهَا يُخْبِرْهُ اللهُ بِهَا مَزِيدًا فِي إِثْبَاتِ ثُبُوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، كَمَا أَخْبَرَهُ بِالْجَوَابِ عَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، حِينَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْهَا، وَعِنْدِي أَنَّ جَوَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ جَوَابٌ شَرْعِيٌّ لَا غَيْبِيٌّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بِتِلْكَ

الْمُنَاسَبَةِ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَبُوكَ الشَّرْعِيُّ مَنْ وُلِدْتَ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ حُذَافَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ الْمُتَضَمِّنِ لِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنَ السُّؤَالِ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (٢: ١٨٩) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (ج٢) .

وَهَذَهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ، وَقَدْ غَفَلَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِهِ كَالْعَقَائِدِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَطْلُبُ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْأَحْكَامُ. وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ - دَعْ تَرْكَهُ وَعَدَمَهُ - يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، أَوِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الْمُرَادِ لِلشَّارِعِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْعِهِ تَرْكُهُ الِاجْتِهَادَ لِلنَّاسِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا وَلَا ذَاكَ السُّؤَالُ عَنِ الْأُمُورِ الشَّخْصِيَّةِ كَسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ نَاقَتِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا هَذَا النَّوْعَ مِنَ السُّؤَالِ غَايَةً فِي خَفَاءِ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ فَحِكْمَتُهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ إِبْدَاءِ الْجَوَابِ لِلسَّائِلِ الْمُؤْمِنِ رُبَّمَا كَانَ مُشَكِّكًا لَهُ فِي رِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَذَهَبَ أَبُو السُّعُودِ مَذْهَبًا غَرِيبًا فِي الْآيَةِ وَتَعْلِيلِ إِبْدَاءِ الْأَشْيَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا بِمَا يُوجِبُ الْمَسَاءَةَ فِي كُلِّ نَوْعَيْهَا، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيَغُمُّهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الصَّعْبَةِ الَّتِي لَا يُطِيقُونَهَا، وَالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَفْتَضِحُونَ بِظُهُورِهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا خَيْرَ فِيهِ، فَكَمَا أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ مُسْتَتْبَعٌ لِإِبْدَائِهَا، كَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنِ التَّكَالِيفِ مُسْتَتْبَعٌ لِإِيجَابِهَا عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ التَّشْدِيدِ لِإِسَاءَتِهِمُ الْأَدَبَ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ، وَتَجَاوُزِهِمْ عَمَّا يَلِيقُ بِشَأْنِهِمْ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ فِيهِ وَلَا تَعَرُّضٍ لِكَيْفِيَّتِهِ وَكِمِّيَّتِهِ. اهـ.

ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ثَلَاثَةَ إِيرَادَاتٍ وَأَجَابَ عَنْهَا فَقَالَ:

(إِنْ قُلْتَ) : تِلْكَ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْمَسَاءَةِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِإِيجَابِ الْمَسَرَّةِ أَيْضًا، لِأَنَّ إِيجَابَهَا لِلْأُولَى إِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ وَجُودُهَا فَهِيَ مِنْ حَيْثُ عَدَمُهَا مُوجِبَةٌ لِلْأُخْرَى قَطْعًا، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الْحَيْثِيَّتَيْنِ مُحَقَّقَةً عِنْدَ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ مِنَ

السُّؤَالِ ظُهُورُهَا كَيْفَ كَانَتْ، بَلْ ظُهُورُهَا بِإِيجَابِهَا لِلْمَسَاءَةِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>