للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَتَارِيخِ سَلَفِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ، فَضْلًا عَنْ أَهْلِ وَطَنِهِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ. قَالَ شَيْخُنَا فِي سِيَاقِ دَرْسِهِ مَا مِثَالُهُ: ((اخْتَصَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخِطَابِ اهْتِمَامًا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ الشُّعُوبِ الْحَامِلَةِ لِلْكُتُبِ

السَّمَاوِيَّةِ وَالْمُؤْمِنَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِأَنَّ فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ أَقْوَى مِمَّا فِي دُخُولِ النَّصَارَى مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي أَطْلَقَهَا فِي التَّذْكِيرِ لِعِظَمِ شَأْنِهَا هِيَ نِعْمَةُ جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ زَمَنًا طَوِيلًا (أَوْ أَعَمُّ) وَلِذَلِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ شَعْبَ اللهِ كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي الْقُرْآنِ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْقَبَةَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَكَانُوا بِهَا مُفَضَّلِينَ عَلَى الْعَالَمِينَ مِنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ النَّاسِ لِلَّهِ شُكْرًا، وَأَشَدَّهُمْ لِنِعْمَتِهِ ذِكْرًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا النِّعْمَةَ حُجَّةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَسَبَبَ إِيذَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ فَضْلَ اللهِ - تَعَالَى - مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْهُمْ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - خِطَابَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بَعْدَهُ، فَقَالَ:

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) عَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ يُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِرُسُلِهِ مَتَى قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ؛ أَيْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ شَعْبًا جَدِيدًا. هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْخَاصُّ الْمَنْصُوصُ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْعَهْدِ عَهْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَهُوَ التَّدَبُّرُ وَالتَّرَوِّي، وَوَزْنُ كُلِّ شَيْءٍ بِمِيزَانِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، لَا بِمِيزَانِ الْهَوَى وَالْغُرُورِ، وَلَوِ الْتَفَتَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الْعَامِّ، أَوْ إِلَى تِلْكَ الْعُهُودِ الْخَاصَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي كِتَابِهِمْ، لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَ مَعَهُ وَكَانُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فَعَلَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) فَإِنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْعَهْدِ الْعَامِّ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَهْدِ الْخَاصِّ فَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْرِ عُمُومِ الْعَهْدِ الْمُضَافِ عَلَيْهِ.

هَذَا هُوَ عَهْدُ اللهِ وَأَمَّا عَهْدُهُمْ فَهُوَ التَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ وَالرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَخَفْضُ الْعَيْشِ فِيهَا، هَذَا هُوَ الشَّائِعُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدْ وَعَدَهُمْ أَيْضًا بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ

لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا الْإِشَارَاتِ وَلِذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ الْيَهُودَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمَعَ هَذَا يَقُولُ (الْجَلَالُ) كَغَيْرِهِ:

إِنَّ هَذَا الْعَهْدَ هُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ.

وَلَمَّا كَانَ مِنْ مَوَانِعِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الَّذِي فَشَا تَرْكُهُ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَوْفُ بَعْضِهِمْ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>