وَآتَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمِيزَانَ مَعَ الْقُرْآنِ كَمَا آتَاهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلُ، وَالْمِيزَانُ: مَا يَقُومُ بِهِ الْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْأَحْكَامِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ الَّتِي يَسْتَخْرِجُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ بِاجْتِهَادِهِمْ فِي تَطْبِيقِ الْأَقْضِيَةِ عَلَى النَّصِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ.
وَأَمَّا أَدِلَّةُ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ فَأَعْظَمُهَا وَأَظْهَرُهَا سِيرَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَالسِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ بِمُشَاوَرَةِ أُولِي الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ وَالْمَكَانَةِ الْمُحْتَرَمَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كُبَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمِنْهَا إِذْنُهُ لِمُعَاذٍ عِنْدَ إِرْسَالِهِ إِلَى الْيَمَنِ
بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقَضَاءِ، وَحَدِيثُ: " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَلَمَةَ تَابَعَاهُ عَلَيْهِ.
(٦) إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِسْلَامَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ لِتَكْمِيلِ الْبَشَرِ، فِي أُمُورِهِمُ الرُّوحِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ، لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُورُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَتَمَّهَا اللهُ تَعَالَى وَأَكْمَلَهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهَا النُّصُوصُ، فَلَيْسَ لِبَشَرٍ بَعْدَ الرَّسُولِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْئًا.
وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ قَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بَيَّنَ الْإِسْلَامُ أَهَمَّ أُصُولِهَا، وَمَا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ مِنْ فُرُوعِهَا، وَكَانَ مِنْ إِعْجَازِ هَذَا الدِّينِ وَكَمَالِهِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ ذَلِكَ يَتَّفِقُ مَعَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَيَهْدِي أُولِي الْأَمْرِ إِلَى أَقْوَمِ الطُّرُقِ لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ، بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشُّورَى وَالِاجْتِهَادِ.
(٧) مَنْ تَدَبَّرَ مَا تَقَدَّمَ تَظْهَرْ لَهُ حِكْمَةُ مَا كَانَ مِنْ كَرَاهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَثْرَةِ سُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَنِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِي أَجْوِبَتُهَا كَثْرَةَ الْأَحْكَامِ، وَالتَّشْدِيدَ فِي الدِّينِ، أَوْ بَيَانَ أَحْكَامٍ دُنْيَوِيَّةٍ رُبَّمَا تُوَافِقُ ذَلِكَ الْعَصْرَ وَلَا تُوَافِقُ مَصَالِحَ الْبَشَرِ بَعْدَهُ، وَقَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute