غَنِيًّا إِلَّا بِهِمْ وَمِنْهُمْ، فَإِذَا عَجَزَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْكَسْبِ لِآفَةٍ فِي فِكْرِهِ وَنَفْسِهِ أَوْ عِلَّةٍ فِي بَدَنِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ الْأَخْذُ بِيَدِهِ، وَأَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لَهُ حِفْظًا لِلْمَجْمُوعِ الَّذِي تَرْتَبِطُ مَصَالِحُ بَعْضِهِ بِمَصَالِحِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا مَيَّزَهُمْ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْغَنِيَّ فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ
إِلَى الْفَقِيرِ كَمَا أَنَّ الْفَقِيرَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَمْرَضُ فَتَغْفُلُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي بَذْلِ الْمَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْفَقِيرِ وَالضَّعِيفِ مُبَالَغَةً وَغُلُوًّا فِي حُبِّ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ كَمَا يَقُولُونَ؛ لِهَذَا جَعَلَ اللهُ بَذْلَ الْمَالِ وَالْإِنْفَاقَ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقَ وَالْكُفْرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ الْآيَاتِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْبُخْلَ - وَمَنْبَعُهُ الْقَسْوَةُ عَلَى عِبَادِ اللهِ - تَعَالَى -، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ اسْتِرْسَالًا فِي الشَّهَوَاتِ وَمَيْلًا مَعَ الْأَهْوَاءِ - لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ قَطُّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَتَّى يَقُومَ بِمَا أَمَرَ اللهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْهُ عَلَى مَا يُحِبُّ اللهُ وَيَرْضَى.
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَالرُّكُوعُ صُورَةُ الصَّلَاةِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَقَدْ أَخَّرَهُ وَلَمْ يَصِلْهُ بِالصَّلَاةِ لِحِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ لَا رِعَايَةَ لِلْفَاصِلَةِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، فَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْرَضُ فِيهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ، بَلْ هَذَا لَا يَرْتَضِيهِ الْبُلَغَاءُ مِنَ النَّاسِ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى -؟
وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ الثَّلَاثَةُ مُرَتَّبَةً كَمَا يُحِبُّ اللهُ - تَعَالَى -؛ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا رُوحُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَيَلِيهَا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى زَكَاةِ الرُّوحِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَهُوَ صُورَةُ الصَّلَاةِ الْبَدَنِيَّةِ أَوْ بَعْضُ صُورَتِهَا أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهَا فَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ فَرْضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِسَابِقَيْهِ وَمَا هُوَ بِعِبَادِهٍ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عِبَادَةً لِأَنَّهُ يُؤَدَّى امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِظْهَارًا لِخَشْيَتِهِ، وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَصِيرُ عَادَةً لَا يُلَاحَظُ فِيهَا امْتِثَالٌ وَلَا إِخْلَاصٌ فَلَا يُعَدُّ عِنْدَ اللهِ شَيْئًا، وَإِنْ عَدَّهُ أَهَّلُ الرُّسُومِ كُلَّ شَيْءٍ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَصُورَتِهَا بِالزَّكَاةِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الزَّكَاةِ. وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute