للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الصَّائِمِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا الشَّرْعُ وَلَا اللُّغَةُ وَلَا الْعَقْلُ الْمُدْرِكُ لِلْحُكْمِ وَالْمَصَالِحِ; وَلِذَلِكَ قَاسُوا عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِدْخَالَ الْمِسْبَارِ فِي جُرْحِ الْبَطْنِ أَوِ الرَّأْسِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا خَرَجَتْ مَقْعَدَتُهُ عِنْدَ الْغَائِطِ فَأَدْخَلَهَا بِيَدِهِ أَيْ بَعْدِ الِاسْتِنْجَاءِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ! .

وَبِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ زَادَتْ أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ وَأَنْوَاعُ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَا كَانَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ إِكْمَالِ الدِّينِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا شَيْءٌ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْنَا الشَّارِعُ مِنْ سُكُوتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا عَنْهَا رَحْمَةً بِنَا مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يُرِيدُ بِنَا الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِنَا الْعُسْرَ، وَإِنَّهُ مَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يُعْنِتَنَا.

(ما حَقَّقَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِياسِ) :

بَيِّنَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ فِي كِتَابِهِ (إِرْشَادِ الْفُحُولِ إِلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ) الْخِلَافَ فِي الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ: هَلْ: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِهِ عَقْلًا أَمْ لَا؟ وَاخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ، هَلْ وَقَعَ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا؟ وَاخْتِلَافَ الْقَائِلِينَ بِالْوُقُوعِ فِي شُرُوطِهِ وَدَلَائِلُهُ، هَلْ هِيَ سَمْعِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ؟ وَانْقِسَامَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ إِلَى

فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ يَقُولُ: لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَفَرِيقٌ يَسْتَدِلُّ عَلَى نَفْيِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَإِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ وَبِالْعَقْلِ. ثُمَّ قَالَ: " وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْقِيَاسِ بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ; فَالْقِيَامُ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ يَكْفِيهِمْ، وَإِيرَادُ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ، وَقَدْ جَاءُوا بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ فَلَا نَطُولُ بِذِكْرِهَا، وَجَاءُوا بِأَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ فَقَالُوا: دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ".

ثُمَّ أَوْرَدَ مَا قَالُوهُ وَبَحَثَ فِيهِ الْإِمَامُ النِّحْرِيرُ مُلْتَزِمًا قَوَاعِدَ الْأُصُولِ وَآدَابَ الْمُنَاظَرَةِ، فَنُلَخِّصُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي مُبْتَدِئِينَ بِأَدِلَّتِهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ.

اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْقِيَاسِ:

(الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٥٩: ٢) وَقَدْ نَقَلَ عَنِ الْمَحْصُولِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ رَدَّ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ مِنْ وُجُوهٍ، وَبَحَثَ فِيمَا اخْتَارَهُ مِنْ كَوْنِ الِاعْتِبَارِ حَقِيقَةً فِي الْمُجَاوَزَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى كَوْنِ الْآيَةِ غَيْرَ حُجَّةٍ لِلْقِيَاسِيِّينِ فَقَالَ: " وَالْحَاصِلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ لَا بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تُضَمُّنٍ وَلَا الْتِزَامٍ، وَمَنْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَقَدْ شَغَلَ الْحَيِّزَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ".

(الدَّلِيلُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ) : قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٥: ٩٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>