للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الْقِياسُ الصَّحِيحُ) .

وَإِذَا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَا، وَتَقَرَّرَ لَدَيْكَ جَمِيعُ مَا قَرَّرْنَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَأْخُوذَ بِهِ هُوَ مَا وَقَعَ النَّصُّ عَلَى عِلَّتِهِ وَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَمَا كَانَ مِنْ بَابِ فَحْوَى الْخِطَابِ أَوْ لَحْنِ الْخِطَابِ عَلَى اصْطِلَاحِ مَنْ يُسَمِّي ذَلِكَ قِيَاسًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ لَمْ يَقُولُوا بِإِهْدَارِ كُلِّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا وَإِنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ أَوْ مَقْطُوعًا فِيهِ بِنَفِيِ الْفَارِقِ، بَلْ جَعَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْقِيَاسِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ مَشْمُولًا بِهِ مُنْدَرِجًا تَحْتَهُ، وَبِهَذَا يَهُونُ عَلَيْكَ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ عِنْدَكَ مَا اسْتَعْظَمُوهُ، وَيَقْرُبُ لَدَيْكَ مَا بَعَّدُوهُ; لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَاصِّ صَارَ لَفْظِيًّا، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ طَرِيقَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَافَ الْمَعْنَوِيَّ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، وَقَدْ قَدَّمَنَا لَكَ أَنَّ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَسْتَحِقُّ تَطْوِيلَ ذُيُولِ الْبَحْثِ بِذِكْرِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ أَنْهَضَ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِالْأَحْكَامِ؛ فَإِنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَالْحَوَادِثُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.

وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِخْبَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهَا دِينَهَا، وَبِمَا أَخْبَرَهَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَرَكَهَا عَلَى الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا.

ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ صَحِيحٍ وَفَهْمٍ صَالِحٍ أَنَّ فِي عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُطْلَقَاتِهِمَا وَخُصُوصِ نُصُوصِهِمَا مَا يَفِي بِكُلِّ حَادِثَةٍ تَحْدُثُ، وَيَقُومُ بِبَيَانِ كُلِّ نَازِلَةٍ تَنْزِلُ، عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ اهـ.

ثُمَّ قَالَ الشَّوْكَانِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى النَّصِّ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ مَا نَصُّهُ:

" وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْأَخْذِ بِالْعِلَّةِ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَخْذُ بِهَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَمْ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَذَهَبَ إِلَى الثَّانِي النَّافُونَ لِلْقِيَاسِ، فَيَكُونُ الْخِلَافُ عَلَى هَذَا لَفْظِيًّا. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الْخَطْبُ وَيَصْغُرُ مَا اسْتَعْظَمَ مِنَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنَّ لَفْظَ التَّعْلِيلِ إِذَا لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ عَنْ كُلِّ مَا تَجْرِي الْعِلَّةُ فِيهِ كَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ مُسْتَدِلًّا بِلَفْظٍ قَاضٍ بِالْعُمُومِ " اهـ.

أَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَعُدُّ كُلَّ تَعْلِيلٍ فِي النُّصُوصِ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ، فَيَجْرِي كُلُّ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ مَجْرَى أَفْرَادِ الْعَامِّ فِي حُكْمِهِ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَنُوطُونَ الْأَحْكَامَ بِالْعِلَلِ الْمَنْصُوصَةِ حَقِيقِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ، سَوَاءٌ كَانُوا يُسَمُّونَ ذَلِكَ عَمَلًا بِالنَّصِّ أَوْ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ

<<  <  ج: ص:  >  >>