يُحَرِّفُونَ الْبِشَارَةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُؤَوِّلُونَهَا. وَيَحْتَالُونَ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ فَيَمْنَعُونَهَا، وَجُعِلَتْ لَهُمْ مَوَاسِمُ وَاحْتِفَالَاتٌ دِينِيَّةٌ تُذَكِّرُهُمْ بِمَا آتَى اللهُ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا مَنَحَهُمْ مِنَ النِّعَمِ؛ لِيَنْشَطُوا إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَلَكِنَّ الْقُلُوبَ قَسَتْ بِطُولِ الْأَمَدِ فَفَسَقَتِ النُّفُوسُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا. وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَا تَزَالُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَلَوْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ وَالْحَثِّ عَلَى الْخَيْرِ لَاعْتَرَفُوا وَمَا أَنْكَرُوا، وَلَكِنْ أَيْنَ الْعَمَلُ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ أَقْوَى حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ؟
كَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ ظَوَاهِرِ الدِّينِ بِالتَّفْصِيلِ، وَكَانَ عَامَّتُهُمْ يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ الْعِبَادَاتِ الْعَامَّةَ وَالِاحْتِفَالَاتِ الدِّينِيَّةَ وَبَعْضَ الْأُمُورِ الْأُخْرَى بِالْإِجْمَالِ، وَيَرْجِعُ الْمُسْتَمْسِكُ مِنْهُمْ بِدِينِهِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ إِلَى الْأَحْبَارِ فَيُقَلِّدُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُ بِهِ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَ بِمَا يَرَوْنَهُ صَوَابًا فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ هَوًى، وَإِلَّا لَجَئُوا إِلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْحِيلَةِ لِيَأْخُذُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيُصِيبُ الْغَرَضَ، فَإِذَا وُجِّهَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إِلَى حَمَلَةِ الْكِتَابِ فَذَاكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَظِيفَتُهُمْ، وَإِذَا كَانَ عَامًّا فَذَاكَ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعَامَّةِ فِيمَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ بِالْإِجْمَالِ كَشَأْنِ الرُّؤَسَاءِ فِيمَا يَعْرِفُونَ بِالتَّفْصِيلِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ أَحَدٌ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ وَلَا يَحُثُّ عَلَى بِرٍّ، فَإِذَا كَانَ الْآمِرُ لَا يَأْتَمِرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ.
وَبَّخَ اللهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ كَالْأَخْذِ بِالْحَقِّ وَمَعْرِفَتِهِ لِأَهْلِهِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْوَعْدِ عَلَيْهِ بِالسَّعَادَةِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَدَمِ تَذْكِيرِهَا بِذَلِكَ، وَمَا أَجْمَلَ التَّعْبِيرَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ بِنِسْيَانِ الْأَنْفُسِ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَلَّا يَنْسَى نَفْسَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَسْبِقَهُ أَحَدٌ إِلَى السَّعَادَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِوَعْدِ الْكِتَابِ عَلَى الْبِّرِ، وَوَعِيدِهِ عَلَى تَرْكِهِ، فَكَيْفَ نَسِيتُمْ أَنْفُسَكُمْ (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) وَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَعْرِفُونَ مِنْهُ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَأْمُورُونَ؟ أَفَيَعْلَمُونَ مَعَ نَقْصِ الْعِلْمِ بِفَائِدَةِ الْعَمَلِ وَلَا تَعْمَلُونَ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ وَسَعَتِهِ؟ وَلَمَّا كَانَ هَذَا غَيْرَ مَعْقُولٍ قَفَّى عَلَى اسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) .
يَعْنِي أَلَا يُوجَدُ فِيكُمْ عَقْلٌ يَحْبِسُكُمْ عَنْ هَذَا السَّفَهِ؟ فَإِنَّ مَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ لَا يَدَّعِي كَمَالَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانَ الْيَقِينِيَّ بِهِ وَالْقِيَامَ بِالْإِرْشَادِ إِلَيْهِ: هَذَا
كِتَابُ اللهِ، هَذِهِ وَصَايَا اللهِ، هَذَا أَمْرُ اللهِ، قَدْ وَعَدَ الْعَامِلَ بِهِ السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَخُذُوا بِهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِعُرَاهُ، وَحَافِظُوا عَلَيْهِ - ثُمَّ هُوَ لَا يَعْمَلُ وَلَا يَسْتَمْسِكُ؟ .
مَثَلُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَمَامَهُ طَرِيقٌ مُضِئٌ نُصِبَتْ فِيهِ الْأَعْلَامُ وَالصُّوَى بِحَيْثُ لَا يَضِلُّ سَالِكُهُ، ثُمَّ هُوَ يَسْلُكُ طَرِيقًا آخَرَ مُظْلِمًا طَامِسَ الْأَعْلَامِ وَكُلَّمَا لَقِيَ فِي طَرِيقِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute