وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ، مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَسِيَاسَةٍ وَقَضَاءٍ وَآدَابٍ فَهِيَ تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الْأَدِلَّةِ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَا فِيهِ نَصٌّ مُحْكَمٌ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لُغَةً، وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنَ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ بِمَوْضُوعِهِ أَوِ الْعَامَّةِ كَنَفْيِ الْحَرَجِ وَنَفْيِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (٦: ١١٩) وَكَوْنِهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِ مُقْتَضِيهَا.
الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَصٌّ صَحِيحٌ بِعُمُومِهِ أَوْ تَعْلِيلِهِ أَوْ مَفْهُومِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَوْ عَمِلَ بِهَا جُمْهُورُهُمْ، وَعُرِفَ شُذُوذُ مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ، فَالْوَاجِبُ فِي هَذَا عَيْنُ الْوَاجِبِ فِيمَا قَبْلَهُ بِشَرْطِهِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ.
الثَّالِثُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ تَكْلِيفِيٌّ غَيْرُ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ، أَوْ حَدِيثٌ غَيْرُ وَاهٍ وَلَا صَحِيحٍ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ لِلِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رِوَايَتِهِ أَوْ صَرَاحَةِ دَلَالَتِهِ. فَمِثْلُ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ كُلُّ مُكَلَّفٍ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَيُعْذَرُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا يَعِيبُهُ وَلَا يَنْتَقِدُهُ، كَمَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَعِبْ أَحَدُهُمْ مُخَالِفَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَهُ لَا إِمَامًا وَلَا مُقْتَدِيًا، وَكَمَا فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ تَحْرِيمَهَا وَبَعْضُهُمْ عَدَمَ تَحْرِيمِهَا، فَعَمِلَ كُلٌّ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى غَيْرِهِ.
وَمِثْلُهُ مَا يَسْتَنْبِطُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الدِّينِ وَأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّفُهُ تَقْلِيدًا لِمَنِ اسْتَنْبَطَهُ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَشْهَرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ وَأَنْ يَأْخُذَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ إِلَّا إِذَا عَرَفَ مَأْخَذَهُ وَظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا أَنْزَلَ اللهُ لَا لِآرَاءِ النَّاسِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) (٧: ٣) .
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ كَالْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَيَنْبَغِي
أَنْ يَنْظُرَ أُولُو الْأَمْرِ وَيَتَشَاوَرُوا فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَصْحِيحُ النَّقْلِ، وَمِنْ حَيْثُ طَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ أَلْحَقُوهُ بِهِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُهُ، وَإِلَّا كَانَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ.
الرَّابِعُ: مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ غَيْرُ وَارِدٍ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَادَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute