للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

افْتِرَاءً عَلَيْهِ فَظَاهَرٌ بَيِّنٌ، وَأَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ ادِّعَاءً وَاسْتِدْلَالًا بِالْمَشِيئَةِ فَهُوَ افْتِرَاءٌ أَيْضًا لِأَنَّ دَلِيلَهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَمْنَعِ الْكُفَّارَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسَّاقَ مِنَ الْفِسْقِ وَلَا أَكْرَهَهُمْ عَلَيْهَا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ، بَلْ جَعَلَ لَهُمُ اخْتِيَارَ التَّرْجِيحِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ مَجْبُورِينَ عَلَيْهَا، فَعَدَمُ إِجْبَارِهِمْ عَلَى التَّرْكِ أَوِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى رِضَائِهِ تَعَالَى بِمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفِسْقٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ فِي حَالِ السُّكُوتِ عَنْ إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، فَوَجْهُهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ مِنْ شَأْنِ رَبِّ النَّاسِ وَإِلَهِهِمْ سُبْحَانَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، فَمَنْ تَجَرَّأَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُدَّعِيًا بِفِعْلِهِ هَذَا، إِمَّا الرُّبُوبِيَّةَ وَإِمَّا الْإِذْنَ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَكِلَاهُمَا افْتِرَاءٌ، وَالْفِعْلُ فِيهِ أَبْلَغُ مِنَ الْقَوْلِ (وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أَنَّهُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ بِتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ بِهِ، بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ وَلَوْ بِالْوَسَاطَةِ; لِأَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يُسَيِّبُونَ بِاسْمِهَا السَّوَائِبَ وَيَتْرُكُونَ لَهَا مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لَيْسَتْ بِزَعْمِهِمْ إِلَّا وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ، وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُبْتَدِعٍ فِي الدِّينِ بِتَحْرِيمِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَسْيِيبِ عِجْلٍ لِلسَّيِّدِ الْبَدَوِيِّ أَوْ سِوَاهُ، وَسَنِّ وِرْدٍ أَوْ حِزْبٍ يُضَاهِي بِهِ الْمَشْرُوعَ مِنْ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُؤْثَرْ عَنِ الشَّارِعِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ جَاءَ بِمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَنَالُ بِهِ رِضَاهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَقُّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا عِبَادَةَ وَلَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِنَصٍّ عَامٍ أَوْ خَاصٍّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ أَوْ يَنْقُصَ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) أَيْ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى قَوَاعِدِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ دُونَ الْعَبَثِ وَالْخُرَافَاتِ وَإِلَى الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهَا وَالْمُبَيِّنِ لِمُجْمَلِهَا فَاتَّبِعُوهُ فِيهَا، قَالُوا: يَكْفِينَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا مِنْ عَقَائِدَ وَأَحْكَامٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ. قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) أَيْ أَيَكْفِيهِمْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؟ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ مَا يَكْفِي الْأَفْرَادَ وَالْأُمَمَ وَمَا لَا يَكْفِي بِالْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالِاهْتِدَاءِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْفَضَائِلِ، وَأَيْنَ مِنْ هَذَا وَذَاكَ، أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الْجُهَلَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَبَّطُونَ فِي وَثَنِيَّةٍ وَخُرَافَاتٍ، وَوَأْدِ بَنَاتٍ، وَعُدْوَانٍ مُسْتَمِرٍّ، وَقِتَالٍ مُسْتَمِرٍّ، وَعَدَاوَةٍ وَبَغْضَاءَ، وَظُلْمٍ لِلْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ، عَلَى مَا أُوتُوا مِنْ فِطْنَةٍ وَذَكَاءٍ، وَعَزِيمَةٍ وَدَهَاءٍ، وَحَزْمٍ وَمُضَاءٍ، وَعِزَّةٍ وَإِبَاءٍ، وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارٍ وَآرَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَزَايَا الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، وَالْخُلَفَاءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>