للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَنْ هَذَا رَأْيُهُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ الصِّدْقَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ شَأْنُ طَائِفَةٍ

مَعْدُودَةٍ مِنَ الْبَشَرِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَكُلُّ مَنْ عَدَاهُمْ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، وَيَكْتَفِيَ بِهَذِهِ التُّكَأَةِ فِي تَسْلِيَةِ نَفْسِهِ وَتَجْرِيئِهَا عَلَى الْجَرَائِمِ.

وَكَفَى بِهَذَا حُمْقًا، فَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ غَيْرِ النَّبِيِّ لَيْسَ مَعْصُومًا أَنْ يَكُونَ إِلْفَ مَآثِمَ، وَحِلْفَ جَرَائِمَ، وَخِدْنَ عَظَائِمَ، وَلَوْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ هَكَذَا لَكَانَتِ الشَّرَائِعُ عَبَثًا، وَالتَّهْذِيبُ لَغْوًا، وَلَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَخَرِبَ الْعُمْرَانُ.

(وَهَلْ يَصِحُّ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ أَنْ يُقَالَ: أَنَّ الشَّرَائِعَ وَالْحُدُودَ وَضُرُوبَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَمْ يُنْعِمِ اللهُ بِتَشْرِيعِهَا إِلَّا لِأَجْلِ الْمَعْصُومِينَ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ الْمَعْصُومُ إِلَى وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ؟ وَمَا فَائِدَتُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَيْقَنَ بِتَوْفِيقِ اللهِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي أَمْرًا يُخَالِفُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلَا يَقْتَرِفُ شَيْئًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ؟ ثُمَّ كَيْفَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْمَعْصُومِينَ نَصِيبٌ فِي الْوَعِيدِ وَلَا الزَّجْرِ مَعَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالرَّدْعِ وَأَحْوَجُهُمْ إِلَى التَّخْوِيفِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ؟) .

وَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّلَاةِ فَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ الْمَأْمُولِ؛ وَإِرْجَاعِ النَّفْسِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الرُّوحِ، وَلَكِنَّهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) أَيْ: لَثَقِيلَةٌ شَدِيدَةُ الْوَقْعِ كَقَوْلِهِ: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (٤٢: ١٣) إِلَّا عَلَى الْمُخْبِتِينَ الْمُتَطَامِنَةِ قُلُوبُهُمْ وَجَوَارِحُهُمْ لِلَّهِ - تَعَالَى -؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَفِيدُونَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَكُلِّ الْخَلَائِقِ الْحَسَنَةِ، لِمَا تُعْطِيهِ الصَّلَاةُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ - تَعَالَى -، كَمَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢) فَمِنْ خَوَاصِّ الصَّلَاةِ وَالصَّبْرِ وَنَفْيِ الْجَزَعِ، وَمِنْ خَوَاصِّهَا النَّهْيُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَمِنْ خَوَاصِّهَا الْجُودُ وَالسَّخَاءُ، فَالْمُصَلِّي الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْبَارُّ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي لَا يَتْرُكُ الْحَقَّ لِأَجْلِ شَهْوَةٍ، وَلَا لِمَا يَعْرِضُ لَهُ فِي مُعَامَلَاتِهِ مَعَ الْخَلْقِ مِنْ خَوْفٍ وَخَشْيَةٍ، هَذَا أَثَرُ صَلَاةِ الْخَاشِعِينَ بِالْإِجْمَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (٢٣: ١، ٢) .

ثُمَّ وَصَفَ الْخَاشِعِينَ وَصْفًا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَيُظْهِرُ وَجْهَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فَقَالَ: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أَيْ: الَّذِينَ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ اللهِ - تَعَالَى - يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، بَعْدَ الْبَعْثِ لَا مَرْجِعَ لَهُمْ إِلَى

غَيْرِهِ، قَالَ شَيْخُنَا: فَالْإِيمَانُ بِلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يُوقِفُ الْمُعْتَقِدَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاعْتِقَادُ يَقِينِيًّا، فَإِنَّ الَّذِي يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ ضَارٌّ يَجْتَنِبُهُ أَوْ أَنَّهُ نَافِعٌ يَطْلُبُهُ، وَلِذَلِكَ اكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الظَّنِّ، وَقَدْ فَسَّرَ الظَّنَّ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) بِالْيَقِينِ؛ لِأَنَّهُ الِاعْتِقَادُ الْمُنْجِي فِي الْآخِرَةِ، وَفَاتَهُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ أَبْلَغُ فِي التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>