هُوَ ظَرْفٌ لِقَالُوا، أُرِيدَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ادِّعَاءَهُمُ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ لَمْ يَكُنْ
عَنْ تَحْقِيقٍ وَإِيقَانٍ وَلَا يُسَاعِدُهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ اهـ.
أَقُولُ: فِي مُتَعَلَّقِ الظَّرْفِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ، رَجَّحَ أَبُو السُّعُودِ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا وَهُوَ الْأَوَّلُ وَرَدَّ الثَّانِي الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالُوا آمَنَّا) أَيِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَشْهَدُوا اللهَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ فِي إِيمَانِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) وَيَقُولُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا حَكَى قَوْلَهُمْ حِكَايَةً وَوَصَلَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ وَهُوَ سُؤَالُهُمْ هَذَا وَجَوَابُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ إِذْ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَإِصْرَارُهُمْ عَلَى السُّؤَالِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجْهُ رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لَقِيلَ: " إِذْ قَالُوا يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ " وَلَمْ يَقُلْ: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) وَلَمَا صَحَّ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ نِعْمَةً مِنَ اللهِ عَلَى عِيسَى وَهِيَ كَاذِبَةٌ وَلَا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَا يَرُدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْوَحْيِ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّهُ أَمْرُ اللهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، أَيْ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ; إِذْ كَلَّفَ النَّاسَ كَافَّةً أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا تَجِيئُهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَكِنْ يَرُدُّ قَوْلَهُ أَيْضًا تَسْمِيَتُهُمْ بِالْحِوَارِيَّيْنِ وَمَا فِي سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالصَّفِّ مِنْ إِجَابَتِهِمْ عِيسَى إِلَى نَصْرِهِ، وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ هَذَا شَأْنُهُمْ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ آمَنُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارُوا أَنْصَارَ اللهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو السُّعُودِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ: الْخِلَافُ فِي إِيمَانِهِمْ. وَمَنْشَأُ هَذَا الْخِلَافِ كَلِمَةُ " يَسْتَطِيعُ " وَقَدْ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ " هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ " قَالُوا: أَيْ سُؤَالَ رَبِّكَ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ " تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ " وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ تَلْقِينَ الْقُرْآنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْرِيحِ الصَّحَابِيِّ بِرَفْعِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) وَهَذَا الَّذِي اسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ صَحِيحٍ الْإِيمَانِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ: (١) أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لِأَجْلِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِإِيمَانِ الْعَيَانِ لَا لِلشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ
سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِإِيمَانِ الشَّهَادَةِ وَالْمُعَايَنَةِ مَعَ إِقْرَارِهِ بِإِيمَانِهِ بِذَلِكَ بِالْغَيْبِ (٢) إِنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْفِعْلِ دُونَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَازِمِهِ (٣) إِنَّ السُّؤَالَ عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، أَيْ هَلْ يُنَافِي حِكْمَةَ رَبِّكِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ مَا يُنَافِي الْحِكْمَةَ لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، كَعِقَابِ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ وَإِثَابَةِ الظَّالِمِ الْمُسِيءِ عَلَى ظُلْمِهِ. (٤) إِنَّ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute