لَهُ وَلِأُمِّهِ تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَتَوَجَّهُ إِلَى السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْهَامِ; فَلِذَلِكَ جَاءَ كَأَمْثَالِهِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ (قَالَ سُبْحَانَكَ) بَدَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَابَهُ بِتَنْزِيهِهِ إِلَهَهُ وَرَبَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّنْزِيهَ هُنَا إِنَّمَا هُوَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا لَائِقًا مِنْ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ، وَظَنَّ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ النَّظْمِ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، وَأَنَّ مَا اخْتَرْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ.
وَكَلِمَةُ " سُبْحَانَ " قِيلَ: إِنَّهَا عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَصْدَرٌ لِـ (سَبَحَ) الثُّلَاثِيِّ كَالْغُفْرَانِ، وَاسْتُعْمِلَتْ مُضَافَةً بِاطِّرَادٍ إِلَّا مَا شَذَّ فِي الشِّعْرِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ مَادَّةِ السَّبَحِ وَالسِّبَاحَةِ وَهِيَ الذَّهَابُ السَّرِيعُ الْبَعِيدُ فِي الْبَحْرِ أَوِ الْبَرِّ، وَمِنَ الثَّانِي سَبَحَ الْخَيْلُ وَقَالُوا: فَرَسٌ سَبُوحٌ (كَصَبُورٍ) وَمِثْلُهُ التَّقْدِيسُ مِنَ الْقُدْسِ وَهُوَ الذَّهَابُ الْبَعِيدُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ فِي التَّنْزِيهِ قَالُوا: إِنَّ التَّسْبِيحَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ وَلَكِنْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَسُوءٍ ; وَلِذَا خُصَّ بِتَنْزِيهِ اللهِ
تَعَالَى، وَيُقَابِلُهُ اللَّعْنُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ وَلَكِنْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِبْعَادِ وَالْبُعْدِ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَقَامِ الشَّرِّ (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (١١: ٦٠) ، (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (١٤: ٣) قَالَ الرَّاغِبُ: وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ الْمَرُّ السَّرِيعُ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَجُعِلَ ذَلِكَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، كَمَا جُعِلَ الْإِبْعَادُ فِي الشَّرِّ، فَقِيلَ: أَبْعَدَهُ اللهُ، وَجُعِلَ التَّسْبِيحُ عَامًّا فِي الْعِبَادَاتِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا أَوْ نِيَّةً اهـ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى إِطْلَاقِ التَّسْبِيحِ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَبِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ كَتَسْبِيحِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا. وَالْمُرَادُ بِتَسْبِيحِ النِّيَّةِ الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ، وَفِي كَلِمَةِ " سُبْحَانَكَ " وَمِثْلِهَا " سُبْحَانَ اللهِ " مُبَالَغَةٌ فِي هَذَا التَّنْزِيهِ أَيُّ مُبَالَغَةٍ، إِذْ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِمَادَّتِهَا الدَّالَّةِ بِمَأْخَذِهَا الِاشْتِقَاقِيِّ عَلَى الْبُعْدِ وَالْإِيغَالِ وَالسَّبَحِ الطَّوِيلِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْمَدِيدِ الطَّوِيلِ، وَبِصِيغَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ التَّسْبِيحُ الَّتِي هِيَ مُسَمَّى اسْمِ الْمَصْدَرِ (سُبْحَانَ) وَمَدْلُولُهُ فَإِنَّ التَّفْعِيلَ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، ثُمَّ بِالْعُدُولِ عَنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرٌ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ جِنِّي فَإِنَّ اسْمَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَمِنَ الْمَصْدَرِ وَثَبَاتِهِ حَقِيقَتُهُ; لِأَنَّ مَدْلُولَهُ هُوَ لَفْظُ الْمُصَدْرِ فَانْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْهُ إِلَى الْمَصْدَرِ وَمِنَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ لَفْظِ الْمَصْدَرِ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ دُونَ التَّجَوُّزِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا سَبَقَنِي إِلَى بَيَانِ هَذَا عَلَى كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ عِنْدَ مَنْ تَأَمَّلَهُ (وَمِنْ شِدَّةِ الظُّهُورِ الْخَفَاءُ) .
قُلْنَا: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدَأَ جَوَابَهُ بِتَنْزِيهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ، فَأَثْبَتَ بِهَذَا إِنَّهُ عَلَى عِلْمٍ يَقِينِيٍّ ضَرُورِيٍّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ أَنْ يُشَارَكَ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا إِلَى تَبْرِئَةِ نَفْسِهِ الْعَالِمَةِ بِالْحَقِّ عَنْ قَوْلِ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، فَقَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute