للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَلَا وَإِنَّ هَذَا الشُّعُورَ، شُعُورَ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ، مُلَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ لَا يُفَارِقُهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَضْعُفُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ لَهُ أَثَرٌ، وَفِي تَحَرِيكِ الْوَاعِظِ لَهُ اعْتِرَافٌ ضِمْنِيٌّ بِكَرَامَةٍ وَفَضْلٍ لِلْمَوْعُوظِ يَشْفَعَانِ لَهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ الْوَعْظُ مِنْ مَظِنَّةِ الْإِهَانَةِ فَيَسْهُلُ احْتِمَالُهُ وَيَقْرُبُ قَبُولُهُ.

شُعُورُ الْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ أَمْرٌ شَرِيفٌ يُحْيِيهِ الْإِيمَانُ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ يَرَى أَنَّ لَهُ نِسْبَةً إِلَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ سَنَدُهُ وَمُمِدُّهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَعْلُو نَفْسُهُ وَتَرْتَفِعُ كَمَا قِيلَ:

قَوْمٌ يُخَالِجُهُمْ زَهْوٌ بِسَيِّدِهِمْ ... وَالْعَبْدُ يَزْهُو عَلَى مِقْدَارِ مَوْلَاهُ

مَنْ كَانَ يَشْعُرُ لِنَفْسِهِ بِقِيمَةٍ أَوْ يَجِدُ لَهَا حَقًّا فِي أَنْ تَعِزَّ وَتُكْرَمَ، تَرَاهُ إِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ وَتَذَكَّرَ أَنَّهُ أَلَمَّ بِنَقِيصَةٍ يَتَأَلَّمُ وَيَتَمَلْمَلُ وَيَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ قَلْبَهُ الَّذِي تَشَرَّفَ بِمَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - (وَأَنَّ شَرَفَ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ خَلَّصَهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِ وَصَيَّرَهُ مَرْبُوبًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَرْفَعِ وَأَكْرَمِ كَرِيمٍ سَوَاءٌ - إِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ، لَمْ يَرَ مِنَ اللَّائِقِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِصَاصِ أَنْ يُجَاوِرَهُ مَا يُدَنِّسُهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ لِمَا يُذِلُّهُ، بَلْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ الشُّعُورَ الظَّاهِرَ وَالْعِرْفَانَ الْهَادِيَ إِلَى مَقَامَاتِ الْكَرَامَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْطِنِهِ مِنَ الْقَلْبِ دَنَسٌ مِنْ رِجْسِ الرَّذَائِلِ) فَيَنْفِرُ مِنْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ التَّزَكِّي مِمَّا أَلَمَّ بِهِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - (قَالَ) : لِهَذَا بَدَأَ اللهُ - تَعَالَى - تَذْكِيرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا بَدَأَ وَثَنَّى بِمَا ثَنَّى.

وَهُوَ يَتَضَمَّنُ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ مَا يُشْعِرُ بِغِلَظِ طِبَاعِهِمْ وَفَسَادِ قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَأَدَّبُ بِإِحْيَاءِ إِحْسَاسِ الْكَرَامَةِ، يُؤَدَّبُ بِالتَّأْنِيبِ وَالْإِهَانَةِ.

الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالْعَصَا وَالْحُرُّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةْ

فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) مُؤَكِّدٌ لِمِثْلِهِ فِي الْآيَةِ ٤٠ وَتَمْهِيدٌ لِمَا عَطَفَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ فِي الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ بَيَانِ كُفْرِهِمْ لِلنِّعَمِ، وَمَا تَخَلَّلَهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحُجَجِ، وَأَوَّلُهُ وَأَعْلَاهُ قَوْلُهُ: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أَيْ: أَعْطَيْتُكُمْ مِنَ الْفَضْلِ - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِيمَا يَحْسُنُ - مَا لَمْ أُعْطِ غَيْرَكُمْ مِنَ الشُّعُوبِ - حَتَّى ذَاتِ الْمَزَايَا الدُّنْيَوِيَّةِ - كَالْمَصْرِيِّينَ وَسُكَّانِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: نَادَاهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِمُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ وَمَنْشَأُ تَفْضِيلِهِمْ، وَأَسْنَدَ النِّعْمَةَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لَا إِلَيْهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ عَمَّتْهُمْ، وَالتَّفْضِيلَ شَمَلَهُمْ، ثُمَّ طَفِقَ يُفَصِّلُ النِّعْمَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ بِذِكْرِ أُمَّهَاتِ أَنْوَاعِهَا، فَذَكَرَ تَفْضِيلَهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَالتَّفْضِيلُ هُوَ مَنَاطُ الْأَخْذِ بِالْفَضَائِلِ وَتَرْكِ الرَّذَائِلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَرَى نَفْسَهُ رَذْلًا خَسِيسًا، لَا يُبَالِي مَا يَفْعَلُ.

وَمَنْ يَرَى نَفْسَهُ مُفَضَّلًا مُكَرَّمًا، فَإِنَّهُ يَتَرَفَّعُ عَنِ الدَّنَايَا وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُدَنِّسُ شَرَفَهُ وَتَذْهَبُ

<<  <  ج: ص:  >  >>