بِهِ. وَأَصْلُ الْإِعْرَاضِ التَّوَلِّي عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ عَرَضُ الْمُتَوَلِّي الْمُدْبِرِ عَنْهُ، أَيْ فَهُمْ لِهَذَا الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ وَاللَّفْظِيِّ يَظَلُّونَ مُعْرِضِينَ عَنِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّائِمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّبَّ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى غَيْرُهُ وَلَا أَنْ يُعْبَدَ سِوَاهُ; لِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْأُلُوهِيَّةَ مُتَلَازِمَتَانِ. فَلَوْلَا إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهَا عِنَادًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَجُمُودًا عَلَى التَّقْلِيدِ مِنْ دَهْمَائِهِمْ، وَهُوَ الْمَانِعُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ لَنَظَرُوا فِي النَّوعيْنِ نَظَرَ الِاسْتِقْلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَظَهَرَ لَهُمْ ظُهُورًا لَا يَحْتَمِلُ الْمِرَاءَ وَلَا يَقْبَلُ الْجِدَالَ، فَالْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَعْنَاهُ وَالْمُضَارِعُ الْمَنْفِيُّ فِيهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، أَوْ عَلَى بَيَانِ الشُّئُونِ وَشَرْحِ الْحَقَائِقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى) (١٣: ٨) فَلَا يُلَاحَظُ فِيهِ حَالٌ وَلَا اسْتِقْبَالٌ وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَةٌ أَوَّلَ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَسَتَأْتِي قَرِيبًا، وَآيَةٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (٢١: ٢، ٣) .
وَقَوْلُهُ: (مِنْ آيَةٍ) يَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ أَوْ تَأْكِيدِهِ، وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى الرَّبِّ تُفِيدُ أَنَّ إِنْزَالَهُ الْوَحْيَ، وَبَعْثَهُ لِلرُّسُلِ وَتَأْيِيدَهُمْ، وَهِدَايَتَهُ لِلْخَلْقِ بِهِمْ، كُلُّهُ مِنْ مُقْتَضَى
رُبُوبِيَّتِهِ، أَيْ مُقْتَضَى كَوْنِهِ هُوَ السَّيِّدُ الْمَالِكُ الْمُرَبِّي لِخَلْقِهِ الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَافِقِ لِلْحِكْمَةِ. وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالرَّبِّ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يَجْهَلُونَ قَدْرَ رُبُوبِيَّتِهِ وَكُنْهَ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ هُنَا الدَّلَائِلُ الْكَوْنِيَّةُ الثَّابِتَةُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ هَذِهِ لَا يَكَادُ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالْإِتْيَانِ; لِأَنَّهَا مَاثِلَةٌ دَائِمًا لِلْبَصَائِرِ وَالْأَبْصَارِ، وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ بِالْإِتْيَانِ عَنْ آيَاتِ الْوَحْيِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ وَعَمَّا يَتَجَدَّدُ مِثْلُهَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَمِصْدَاقُ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ، كَالْإِخْبَارِ بِنَصْرِ الرُّسُلِ وَخِذْلَانِ أَقْوَامِهِمْ وَآيَاتِ السَّاعَةِ، مِثَالُ ذَلِكَ آيَتَا الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا آنِفًا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) (٤٠: ٥٠) (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا) (٧: ١٣٢) (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ) (١٢: ١٠٧) .
وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ شَأْنَهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَسَائِرِ مَا يُؤَيِّدُ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ، رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) أَيْ فَبِسَبَبِ ذَلِكَ الشَّأْنِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ وَهُوَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ فَلَمْ يَتَرَيَّثُوا وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا، وَإِنَّمَا كَذَّبُوا مَا جَهِلُوا، وَمَا جَهِلُوا إِلَّا لِأَنَّهُمْ سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَسَالِكَ الْعِلْمِ، وَهَذَا الْحَقُّ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ هُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ خَاتَمُ رُسُلِهِ صَلَّى اللهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute